واستمر كارل بروكلمان الطالب النبيه النجيب الذكي في تعليمه الجامعي بجد ونشاط، وقطع خطوات كبيرة فيها وأنجز إنجازات عظيمة حتى استطاع هذا الشاب الغض ذو الاثنين والعشرين عاما فقط أن يحصل في منتصف عام 1308هـ الموافق التاسع من إبريل سنة 1890م على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة استراسبورغ برسالة موضوعها (علاقة كتاب الكامل لابن الأثير بتاريخ الطبري) (11).
والأساتذة الآخرون الذين أخذ كارل بروكلمان عنهم العلم في استراسبورغ هم: ليو، وكايبل، وعالما اللغات الكلاسيكية ميشائيل والمؤرخ ك. ي. نويمان، وباول شيفربويشورست، وباومغارتن، والفيلسوف فندلباند (12).
وفي بداية عام 1309هـ الموافق أول أكتوبر 1890م جرى تعيينه كمدرس في المدرسة الثانوية البروتستنتية في استراسبورغ أولا تحت التمرين وبعد ذلك مدرسا مساعدا، ولكنه رأى أنه لا مستقبل له في هذه المدرسة، ورغب في التدريس الجامعي وعزم على ذلك، ولأجل هذا غادر إلى برسلاو في عام 1310هـ الموافق نوفمبر 1892م حصل على دكتوراه التأهيل للتدريس في 1310هـ الموافق 28يناير 1893م برسالة عنوانها: (أبو الفرج ابن الجوزي: تلقيح فهوم أهل الآثار في مختصر السير والأخبار) (13).
ويبدو من دراسة حياته أنه بعد ذلك قام بالتدريس الحر في جامعة برسلاو مقابل راتب زهيد لا يتجاوز مائة مارك شهريا لأعوام عديدة وإلى جانب ذلك واصل دراساته العربية واشتغل بالتأليف والتصنيف، ثم انتقل إلى معهد اللغات العربية، وفي صيف العام نفسه خلا منصبان أحدهما: منصب أستاذ مساعد في جامعة إيرلنجن، والثاني: منصب أستاذ مساعد في جامعة برسلاو، وعرض المنصبان على بروكلمان فاختار برسلاو، وانتقل إليها وبقي فيها إلى محرم 1321هـ الموافق ربيع عام 1903م، ثم انتقل إلى جامعة كينجزبرج في العام نفسه، وأصبح أستاذا ذا كرسي فيها، ومكث فيها إلى عام 1328هـ الموافق 1910م، ثم أصبح أستاذا في جامعة هله وعمل فيها إلى عام 1341هـ الموافق 1922م، وكان سعيدا فيها من أي مكان آخر؛ لأن تلاميذه هنا كانوا أوفر مواهب واهتماما (14).
ثم شغل منصب الأستاذية في جامعة برلين وكان يعتقد أنها أفضل جامعة في ألمانيا لتحقيق آماله العلمية وتحسين ظروفه الاقتصادية، ولكن آماله لم تتحقق، ولذا ترك جامعة برلين بعد عام واحد فقط، وعاد مرة أخرى إلى جامعة برسلاو وحل محل أستاذه يريتورس، وبقي فيها مدة طويلة حتى تم انتخابه كرئيس للجامعة في صفر 1351هـ الموافق صيف عام 1932م، ولكنه اضطر إلى الاستقالة من منصبه في ذي القعدة 1351هـ الموافق شهر مارس 1933م بعد أن استولى النازي على السلطة (15).
وتقاعد بروكلمان في محرم 1354هـ الموافق خريف عام 1935م، وانتقل إلى هله ثانية في بداية عام 1355هـ الموافق ربيع عام 1937م؛ لأنه أراد استخدام مكتبة جمعية المستشرقين لأبحاثه وخاصة لمواصلة العمل في كتابه الرئيي ((تاريخ الأدب العربي)) ومكث فيها إلى عام 1364هـ الموافق 1945م مواصلا تأليفه وتصنيفه، وظهرت له كتب عديدة في هذه الفترة، ثم ذهب إلى جامعة برسلاو وعمل فيها كأمين مكتبة جمعية المستشرقين الألمانية، وصرف كل همه لإعادة تنظيمها واستعادة ما نقل من كتبها ومخطوطاتها.
وفي منتصف 1366هـ الموافق صيف عام 1947م جرى تعيينه كأستاذ فخري، وحصل في العام نفسه على مقعد الأستاذية في اللغة التركية، وكان يلقي الدروس في اللغات المختلفة، وأحيل بروكلمان للمرة الثانية على التقاعد في منتصف 1372هـ الموافق صيف عام 1953م، ولكن مع ذلك استمر في نشاطاته العلمية وواصل التدريس والتأليف.
وأصيب بروكلمان في ليلة عيد الميلاد في ربيع الثاني 1374هـ الموافق ديسمبر 1954م بنزلة برد لم يستطع أن يتخلص من مضاعفاتها فيما بعد، ولكنه على الرغم من ذلك استمر في عمله التعليمي ويتابع أبحاثه بالقدر الذي كانت تسمح به ظروفه الصحية، واستعان بواحد من أواخر تلاميذه حتى استطاع إتمام كتابه الأخير نظم اللغة العبرية وقد طبع هذا الكتاب بعد وفاته (16).
وتوفي هذا المستشرق الألماني الكبير في 26من رمضان 1375هـ الموافق السادس من مايو عام 1956م (17).
¥