مفتر، وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديث، وقال شعبة:
كنت أتلقى الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي فقدم فرأيت عنده كتابًا فيه أشياء
منكرة في علي رضي الله عنه، فقلت ما هذا الكتاب؟ فقال: هذا الكتاب حق،
وقال شعبة أيضا: أتيت أبا هارون فقلت له: أخرج إلي ما سمعته من أبي
سعيد، فأخرج إلي كتابًا فإذا فيه: حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل في حفرته وأنه
لكافر بالله. فدفعت الكتاب في يده وقمت. وأقول: إن طعنه في كل من الصهرين
الكريمين يفسر لنا قول الدارقطني فيه: يتلون خارجي وشيعي.
والذي يظهر لي من كلامهم هذا أنه كان منافقًا. فإن قيل يقوي حديثه هذا
حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وغيرهما. قلت: ليس في حديث ابن عباس
أنه ينفع ويضر وإنما فيه أنه يشهد لمن استلمه بحق، فإذا صحت هذه الشهادة مهما
كانت كيفيتها في عالم الغيب فهي لا تدل على أن الحجر الأسود يملك لأحد من
الناس ضرًّا أو نفعًا هو مختار فيه، ولا يطلب أحد من المسلمين منه هذه الشهادة
بألسنتهم ولا قلوبهم فيقال: إن طلبه عادة، وشهادة أعضاء الإنسان عليه يوم القيامة
أصح من شهادة الحجر وليست معبودة بهذا المعنى.
بقي أن يقال: إذا كان الحجر لا ينفع ولا يضر كما قال عمر في الموسم
تعليمًا للناس وأقره بعض الصحابة عليه. وكان استلامه وتقبيله لمحض الطاعة
والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتبع في سائر العبادات، فما هي
حكمة جعل ما ذكر من العبادة؟ وهل يصح ما قيل من أن النبي صلى الله عليه
وسلم تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفًا للمشركين واستمالة لهم إلى
التوحيد؟
والجواب: أن الحجر ليس من آثار الشرك ولا من وضع المشركين، وإنما
هو من وضع إمام الموحدين إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، جعله في بيت الله
ليكون مبدأ للطواف بالكعبة يعرف بمجرد النظر إليها فيكون الطواف بنظام لا
يضطرب فيه الطائفون.
وبهذا صار من شعائر الله يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة لجعلها
بيتًا لله تعالى، وإن كانت مبنية بالحجارة، فالعبرة بروح العبادة: النية والقصد،
وبصورتها الامتثال لأمر الشارع، واتباع ما ورد بلا زيادة ولا نقصان، ولهذا لا
تُقَبَّلُ جميع أركان الكعبة عند جمهور السلف، وإن قال به وبتقبيل المصحف وغيره
من الشعائر الشريفة بعض من يرى القياس في الأمور التعبدية.
وتعظيم الشعائر والآثار الدينية والدنيوية بغير قصد العبادة معروف في جميع
الأمم لا يستنكره الموحدون ولا المشركون ولا المعطلون، وأشد الناس عناية به
الإفرنج فقد بنوا لآثار عظماء الملوك والفاتحين والعلماء العاملين الهياكل العظيمة
ونصبوا لهم التماثيل الجميلة، وهم لا يعبدون شيئا منها، فلماذا نهتم بكل ما يلفظ به
كل قسيس أو سياسي يريد تنفير المسلمين من دينهم إذا موَّه علينا في شأن تعظيم
الحجر الأسود فزعم أنه من آثار الوثنية، ونحن نعلم أنه أقدم أثر تاريخي ديني
لأقدم إمام موحد داع إلى الله من النبيين المرسلين الذي عُرِفَ شيء صحيح من
تاريخهم وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي جمع على تعظيمه مع المسلمين
اليهود والنصارى؟
وبقي من حكمة استلام الحجر وتقبيله ما اعتمده الصوفية فيها أخذًا مما ورد
في بعض الأحاديث الضعيفة كحديث علي السابق، وحديث ابن عباس: (الحجر
الأسود يمين الله في أرضه) رواه الطبراني وهو أنه رمز لمبايعة الله تعالى، فكأن
الحجر يمين الله تعالى ومُسْتَلِمه مبايع له على توحيده والإخلاص له واتباع دينه
الحق، والأعمال الرمزية معروفة في جميع الأديان السابقة، وقال المهلب: حديث
عمر يرد على من قال: إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، ومعاذ
الله أن تكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختبارًا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع
الله، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم. ا هـ. وليس مراد من
قال: إنه يمين الله أن لله جارحة، وإنما أراد ما ذكرنا، والعمدة في رد هذا القول
عدم صحة الحديث فيه، فإن صح وجب قبوله ومعناه ظاهر.
قال الخطابي: معنى كونه يمين الله في الأرض أن من صافحه لمن يريد
موالاته والاختصاص به فخاطبهم بما يعهدونه. وقال المحب الطبري: إن كل ملك
¥