تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فأما قوله سبحانه: (وَجَادِلْهُمْ بالتي هيَ أحسنُ) فيحتمل أن يكون المرادُ بالأحسن الأظهر من الأدلة. ويحتمل التعجيز عن الإتيان بمثل القرآن، لأنه أحسن الأدلة نظاماً وبياناً وأكملها حسناً وإحساناً وأرجحها من الثواب ميزاناً وأوضحها على اختلاف مدلولاتها كشفاً وبرهاناً. ويحتمل الإصغاءُ إلى شُبههم والرفق بهم في حلها ودحضها. ويحتمل بترك الغلظة عليهم في حال جدالهم لتكون عليهم الحجة أظهر والجحد منهم أنكد وهي سنة الأنبياءِ عليهم السلام، مع الأمم عند الدعوة. والمجادلة من ذلك لما قالوا لمحمدٍ (مجنونٌ. قال: (وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ)، أي: جنونٌ من غير أن يقابلهم على ذلك بقولٍ خشنٍ مع النخوة العربية والعزة الهاشمية. وقالوا لنوح عليه السلام: (إنْ هُوَ إلا رَجُلٌ بهِ جِنَّةٌ ... قالَ رَبِّ انصُرْني بما كذَّبُون)، وقالوا له: (إنَّا لنراكَ في ضَلاَلٍ مُبينٍ قالَ يا قومِ ليسَ بي ضَلالةٌ ولكنِّي رسولٌ مِنْ رَبِّ العالمين). وقالوا لصالح: (إنْ هُوَ إلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى على اللهِ كذباً ... قالَ رَبِّ انصُرْني بما كذَّبون)، وقالوا لهودٍ: (إنَّا لنراكَ في سَفَاهةٍ وإنَا لنظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبينَ. قالَ يا قومِ ليس بي سَفَاهَةٌ ولكنِّي رُسولٌ مِنْ رَبِّ العالمينَ (فلو قابلهم الأنبياءُ بغلظةٍ لنفرت طباعهم وانصرفت عقولهم عن التسديد لما قالوا والتدبر لما جاؤوا به من البينات، فلم تتضح لهم المحجة، ولم تقم عليهم الحجة، وشاهدُ هذه الحالة قوله تعالى: (وإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بالإثمِ).

الباب الثاني: في أول من سن الجدَال

أول من سن الجدال الملائكة صلوات الله عليهم حيث قالوا: (أَتْجَعلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بحمدِكَ ونُقَدِّسُ لكَ قالَ إني أعْلَمُ ما لا تعلمونَ).

وهذا منهم استدلال بالترجيح والأولوية، أي: من سبح وقدس لك هو أولى بالإيجاد والجعل فيها ممن يفسد فيها ويسفك الدماء، وكان جواب الله لهم الترجيح أيضاً من جهةٍ أُخرى ولهذا لم يرد عليهم قولهم، إذ قد علم سبحانه أن الذي ظنوه فيهم ووصفوهم به كائن بل عدل الله سبحانه إلى أمر مجملٍ فقال: (إنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُونَ) من ترتيب خلقي وتدبير صنعي المحوط بالحكمة الدال على القدرة فإني خلقت الملائكة من نورٍ لا ظلمة فيه، فكان منهم الخير المحض بإرادتي، وخلقت الشياطين من ظلمة نار السموم وهو المارج، فكان منهم الشر المحض بإرادتي، وخلقت آدم وذريته من نور وظلمةٍ، فكان منهم الخير و الشر بإرادتي، ووضعت فيهم عقلاً يرشد إلى المصالح، ونفساً ميالةً إلى الهوى المُردي، وأمددت الفريقين بجندينِ يسوقان العقل والنفس إلى ما سبق من التقدير الناشئ عن علم التدبير، وكان حكمي في هذين الفريقين أَنَّ من غلب عقله على هواه فهو من الناجين، ومن غلب هواه على عقله فهو من الهالكين وهذا ما اشتمل عليه قوله تعالى: (إنِّي أعْلَمُ ما لا تعلَمُونَ).

ومما اشتمل عليه (إنِّي أعْلَمُ ما لا تعلَمُونَ) أن اختلاف الصنائع أول دليلٍ على قدرة الصانع، ومما اشتمل عليه (إنِّي أعْلَمُ ما لا تعلَمُونَ) أني ركبتُ فيهمْ منَ الشهوةِ ما لو ركَّبته فيكم لفعلتمُ فِعلهم أو لم تطيقوا صَبْرهم على أنهم قد أحبوني محبةً بذلوا فيها أبدانهم للتمزيق، ودماءهم للإراقةِ، وأرواحهم للذهاب، ومنهم الصابرونَ على أنواع المكارهِ، والصائمونَ في الهواجرِ، والعابدونَ على ضعف القوى، والناهون نفوسهم مع قوةِ الهوى، ويرونَ ذلكَ المرّ حلواً في رضائي، وتسليماً لقضائي وقدري، يسابقُ كلُّ وليٍّ منْهم بالعبادةِ أجلهُ، يؤتونَ ما أُتوا وقلوبهم وَجِلةُ، فظهرت حكمة الله عز وجل في خلقهم، ورجحت حجة الله سبحانه على الملائكة في قدحهم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير