وفصَّل بعضهم فقال: يقبل منهما ما كان مفسراً، والمفسَّر مثل أن يقول: المعدل الذي وصفه بالعدالة: هو عدلٌ، وما ذكر فيه من الجرح فقد تاب منه، مثل: أن يُجرح بأنه يشرب الخمر.
فيقول الذي وصفه بالعدالة: هو عدل وما ذُكرَ عنه من شْرب الخمر فقد تاب منه. إذاً نُقدِّم المفسَّر، لأنه معه زيادة علم، فقد علم أنه مجروح بالأول، ثم زال عنه ما يقتضي الجرح.
وإن كان الأمر بالعكس بأن قال الجارح: هذا الرجل ليس بعدل، لأنه مدمن على شرب الخمر، ففي هذه الحالة نقدِّم الجارح.
وإن لم يكن أحدهما مفسِّراً، أو فَسَّرا جميعاً شيئاً عن الراوي، فهنا نقول: إن كان الجرح أو التعديل غير مفسر، فينبغي أن نتوقف إذا لم نجد مرجحاً، فالواجب التوقف في حال هذا الرجل.
وليُعلم أن بعض علماء الحديث عندهم تشدد في التعديل، وبعضهم عندهم تساهل في التعديل.
يعني أن بعضهم من تشدده يجرح بما لا يكون جارحاً.
ومنهم من يكون على العكس فيتساهل فيعدَّل من لا يستحق التعيدل، وهذا معروف عند أهل العلم، فمن كان شديداً في الرواة فإن تعديله يكون أقرب للقبول ممن كان متساهلاً، وإن كان الحق أن يكون الإنسان قائماً بالعدل لا يشدد ولا يتساهل، لأننا إذا تشددنا فربما نرد حديثاً صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلّم، بناء على هذا التشدد، وكذا ما إذا تساهل الإنسان، فربما ينسب حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو لم يصحّ ثبوته إليه بسبب هذا التساهل.
وقوله (ضابط).
هو الذي يحفظ ما روى تحمّلاً وأداءً.
مثل: أن يكون نبيهاً يقظاً عند تحديث الشيخ للحديث، فلا تكاد تخرج كلمة من فم الشيخ إلا وقد ضبطها وحفظها وهذا هو التحمل.
أما الأداء: فأن يكون قليل النسيان، بحيث أنه إذا أراد أن يحدث بما سمعه من الشيخ، أداه كما سمعه تماماً، فلابد من الضبط في الحالين في حال التحمل، وحال الأداء.
وضد الضبط هو: أن يكون الإنسان لديه غفلة عند التحمل، أو أن يكون كثير النسيان عند الأداء.
ولا نقول أن لا ينسى؛ لأننا إذا قلنا: إنه يشترط أن لا ينسى، لم نأخذ عُشر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم، ولكن المراد ألا يكون كثير النسيان، فإن كان كثير النسيان فإن حديثه لا يكون صحيحاً، لماذا؟
لاحتمال أن يكون قد نسي، والناس يختلفون في هذا اختلافاً كبيراً، لا عند التحمل ولا عند الأداء، فبعض الناس يرزقه الله فهماً وحفظاً جيداً، فبمجرد ما أن يسمع الكلمة، إلا وقد تصورها، وقد حفظها وضبطها تماماً وأودعها الحافظة عنده، على ما هي عليه تماماً، وبعض الناس يفهم الشيء خطأ ثم يُودع ما فهمه إلى الحافظة.
وكذلك النسيان فإن الناس يختلفون فيه اختلافاً عظيماً، فمن الناس من إذا حفظ الحديث استودعه تماماً كما حفظه، لا ينسى منه شيئاً، وإن نسي فهو نادر، ومن الناس من يكون بالعكس.
أما الأول: فمعروفٌ أنه ضابط.
أما الثاني: وهو كثير النسيان فليس بضابط، ولكن يجب عليه تعاهد ما تحمله أكثر مما يجب على الأول، لأنه إذا لم يتعاهده فسوف يُنسى ويضيع.
فإن قال قائل هل للنسيان من علاج أو دواء؟
قلنا: نعم له دواء - بفضل الله - وهي الكتابة، ولهذا امتن الله عز وجل على عباده بها فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}. [العلق: 1 – 4]. فقال {اقْرَأْ} ثم قال: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يعني اقرأ من حفظك، فإن لم يكن فمن قلمك، فالله تبارك وتعالى بين لنا كيف نداوي هذه العلة، وهي علة النسيان وذلك بأن نداويها بالكتابة، والان أصبحت الكتابة أدقُّ من الأول، لأنه وجد - بحمد الله - الان المسجِّل.
وقوله: (عن مثله).
أي أنه لابد أن يكون الراوي متصفاً بالعدالة والضبط، ويرويه عمن اتصف بالعدالة والضبط.
فلو روى عدل عن فاسق، فلا يكون حديثه صحيحاً، وكذا إذا روى إنسان عدل جيد الحفظ، عن رجل سيء الحفظ، كثير النسيان، فإن حديثه لا يقبل، ولا يكون صحيحاً، لأنه لم يروه عن رجل ضابط مثله.
* * *
مباحث حديثية
* المبحث الأول:
تنقسم الأخبار المنقولة إلينا إلى ثلاثة أقسم:
1 - الحديث: وهو يختص بما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلّم.
¥