لكنه يمكن أن نقول: لا مخالفة هنا، لأن هذه الزيادة لا تنافي ما سبق، بحيث أنها لا تكذبه ولا تخصصه، وإنما تطبعه بطابع هو من دعاء المؤمنين كما قال الله عنهم {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]. وهنا تقول: وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، نظير قول الله تعالى: {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} فحينئذ يحتاج إلى أن نتثبت في مسألة الزيادة هل هي مخالفة أو غير مخالفة، أي أننا لا نتسرع بالقول بالمخالفة. لأن المخالفة تعني أنه لا يمكن الجمع، أما إذا أمكن الجمع فلا مخالفة.
وهل يشترط في الشذوذ أن يكون في حديث واحد بمعنى أن يكون هذا الحديث رواه جماعة على وجه، ورواه فرد على وجهٍ يخالف الجماعة أو لا يشترط.
نقول: لا يشترط، يمكن أن يكون في حديث، وفي حديثين، هذا هو الذي يظهر لنا من تصرفات العلماء.
مثال ذلك: ما أخرج أصحاب السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» وهذا الحديث صححه بعض العلماء، وقال: إنه يُكره الصيام تطوعاً إذا انتصف شعبان، إلا من كانت له عادةٌ فلا كراهة، وقال الإمام أحمد: لا يكره؛ لأن هذا الحديث شاذ، لأنه يخالف حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الصحيحين وهو قوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه» وذلك لأن الحديث الثاني يدل على جواز الصيام قبل اليومين وهو أرجح من الأول.
إذاً نفهم من هذا أن الشذوذ ليس شرطاً أن يكون في حديث واحد.
مثال آخر: ما أخرجه أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» فهذا الحديث يخالف الحديث الذي في الصحيحين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم قالت له إحدى نسائه إنها صائمة هذا اليوم وكان يوم الجمعة، فقال لها: «أصمت أمس»؟ قالت: لا، قال: «أتصومين غداً»، قالت: لا، قال: «فأفطري» فقوله: «أتصومين غداً» وهو يوم السبت، يدل على جواز صيام يوم السبت، لذلك اختلف العلماء في صحة حديث النهي عن صيام يوم السبت على أقوال:
1 - فمنهم من قال: إن الحديث منسوخ، وهذا القول ضعيف، لأن من شرط الحكم بالنسخ العلم بالتاريخ، وهنا لا نعلم التاريخ.
2 - ومنهم من قال: بل الحديث شاذ؛ لأنه يخالف الحديث الذي في الصحيحين الذي يدل على جواز صيام يوم السبت.
3 - ومنهم من حمله على وجه لا يخالف الحديث الذي في الصحيحين، وذلك بأن يُحمل النهي على إفراد يوم السبت بالصيام، وأما إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلا بأس، وهذا الأخير جمع بين الحديثين، وإذا أمكن الجمع فلا شذوذ، لأن من شرط الشذوذ المخالفة وهنا لا مخالفة، فقالوا: حديث النهي عن صوم يوم السبت، محمولٌ على الإفراد، أما إذا جمع إليه ما قبله أو ما بعده فلا بأس حينئذ.
مثال ثالث: وردت أحاديث متعددة - لكن ليست في البخاري ومسلم - في النهي عن لبس الذهب المحلَّق مثل الخاتم والسوار ونحوه، ووردت أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما تدل على جواز لبس الذهب المحلق، مثل ما في حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر النساء أن يتصدقن، فجعلن يلقين خواتيمهن، وخروصهن في ثوب بلال - رضي الله عنه - ثم أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما رأى الرجل الذي عليه خاتم الذهب أخذه ورمى به، وقال: «يعمدُ أحدكم إلى جمرة من النار فيلقيها في يده».
فمن العلماء من قال: إن النهي عن الذهب المحلق حجة يُعمل بها.
ومنهم من قال: إن النهي عن لبس الذهب المحلق شاذٌّ لا يعمل به، لأنه يخالف ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من جواز لبس الذهب المحلّق، وهذا هو الذي سلكه شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.
ومنهم من قال: إن الأحاديث الواردة في النهي في أول الأمر حين كان الناس في ضيق وفي شدة ثم بعد ذلك رُخِّص فيه.
وإنما ضربت هذه الأمثلة الثلاثة للإشارة إلى أن الشذوذ لا يشترط أن يكون في حديث واحد، بل قد يكون في واحد، أو في اثنين، أو أكثر.
¥