فهذا نسميه قلب إسناد المتن يعني أن تركب إسناد متن على متن آخر، والغالب أنه لا يقع إلا للاختبار، وقد يقع غشًّا، بحيث يريد الرجل أن يُروِّج الحديث لكنْ يكون إسناده ساقطاً يعني كلهم ضعفاء مثلاً، فيأتي بإسناد حديث صحيح ويُركبه عليه، فهو نوع من التدليس، لكنه بطريق آخر.
وهناك قسم آخر وهو قلب المتن: وهذا الذي يعتني به الفقهاء، وأما قلب الإسناد فيعتني به المحدثون، لأنهم ينظرون إلى السند هل هو صحيح؟ وهل يصح به الحديث أم لا.
وأما الفقهاء فيعتنون بقلب المتن، لأنه هو الذي يتغيُّر به الحكم، حيث إن هؤلاء ينظرون إلى الدلالة.
وقلب المتن يحصل من بعض الرواة تنقلب عليهم المتون فيروون بعض الأحاديث على غير وجهها.
من ذلك مثلاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. . .» الحديث وفيه «ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» فقلبه بعض الرواة فقال: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) فهذا مقلوب، لأنه جعل اليمين شمالاً، والشمال يميناً.
ومن ذلك الحديث الذي ثبت في صحيح البخاري (أنه يبقى في النار فضلٌ عمن دخلها، فينشىء الله لها أقواماً يدخلهم النار) فهذا الحديث منقلبٌ على الراوي وصوابه «أنه يبقي في الجنة فضلٌ عمن دخلها من أهل الدنيا فينشىء الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة» الحديث.
وذلك لأنه - أي إنشاء أقوام للنار - ينافي كمال عدل الله تعالى إذ كيف يمكن أن يُنشأ الله تعالى أقواماً للعذاب، ولأنه ينافي الحديث الصحيح «لا يزال يُلقى في النار وهي تقول هل من مزيد، حتى يضع الله تعالى عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط».
ومثال آخر: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه» انقلب هذا الحديث على الراوي فقال: (وليضع يديه قبل ركبتيه) والصواب: «وليضع ركبتيه قبل يديه» وإنما قلنا ذلك لأن هذا التفريع يخالف أول الحديث، فأول الحديث «فلا يبرك كما يبرك البعير» فالنهي عن التشبه بالبعير في صفة السجود «فلا يبرك كما يبرك» ونحن إذا شاهدنا البعير نراه إذا برك، فإنه يقدم يديه قبل ركبتيه، حيث إنه أول ما يبرك ينزل مقدمه قبل مؤخره، وأنت إذا قدمت يديك نزل مقدمك قبل مؤخرك، فأشبهت بروك البعير.
فإذا قيل: (وليضع يديه قبل ركبتيه) صار لا يناسب أول الحديث، والذي يناسبه (وليضع ركبتيه قبل يديه)، وقد ظن بعض العلماء أن الحديث ليس فيه قلب، وقال: إن ركبة البعير في يديه، ونحن نُسلِّم أن ركبة البعير في يديه.
ولكن الحديث لم يقل فيه الرسول صلى الله عليه وسلّم: فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير، فإنه لو قال كذلك لقلنا: لا تبرك على الركبتين لأن البعير يبرك على ركبتيه، لكن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «فلا يبرك كما» والكاف هنا للتشبيه، وبين العبارتين فرق.
فإذا عرفنا أن مدلول قوله «فلا يبرك كما يبرك البعير» أي لا يقدِّم يديه فينزل مقدمه قبل مؤخره، ولأن النزول في السجود بالركبتين، هو الوضع الطبيعي.
ففي الوضع الطبيعي أول ما ينزل إلى الأرض هو ما يلي الأرض وهو الركبة ثم اليد ثم الجبهة والأنف.
قال المؤلفُ رحمه الله:
والفَردُ ما قَيَّدْتَهُ بثقَة ** أوْ جْمعٍ أوْ قَصٍر عَلَى رِوَايَةٍ
هذا هو الثالث والعشرون من أقسام الحديث المذكورة في هذه المنظومة، وهو الفرد، وذكر الناظم له ثلاثة أنواع.
1 - ما قُيد بثقة.
2 - ما قُيد بجمع.
3 - ما قُيد برواية.
فما هو الفرد؟
نقول: الفرد هو أن ينفرد الراوي بالحديث، يعني أن يروي الحديث رجلٌ فرد.
والغالب على الأفراد الضعف، لكن بعضها صحيح متلقى بالقبول، لكن الغالب على الأفراد أنها ضعيفة، لاسيما فيما بعد القرون الثلاثة، لأنه بعد القرون الثلاثة، كثر الرواة فتجد الشيخ الواحد عنده ستمائة راوي. فإذا انفرد عنه راوٍ واحد دون غيره فإن هذا يوجب الشك، فكيف يخفى هذا الحديث على هذا العدد الكثير، ولا يرويه إلا واحد فقط.
لكن في عهد الصحابة تكثر الفردية، وكذلك في عهد التابعين لكنها أقل من عهد الصحابة، لانتشار التابعين وكثرتهم، وفي عهد تابع التابعين تكثر الفردية لكنها أقل من عهد التابعين.
¥