ثانياً: النيات في العبادات معتبرة في الشرع، فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع، قال الإمام الشاطبي - رحمه الله: " إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض " وقال أيضا: " ونهيه عن التشديد - أي النبي عليه الصلاة والسلام - شهير في الشريعة، بحيث صار أصلاً قطعياً، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح، هذا واضح وبالله التوفيق "
ثالثاً: باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والإعنات، لقوله تعالى {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}، وقوله {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا}، وقوله {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقوله {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، وقوله {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله {يريد الله أن يخفف عنكم} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بعثت بالحنيفية السمحة " " وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً "
رابعاً: لو قصد الشارع التكاليف بالمشقة لما حصل الترخيص، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به، ومعلوم من الدين بالضرورة، وهي لرفع الحرج والمشقة الواقعة على المكلفين، كرخص القصر، والفطر والجمع بين الصلاتين.
خامساً: ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين الله، لقوله تعالى {وما أنا من المتكلفين} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا ".
سادساً: نقل الإمام الشاطبي الإجماع على عدم وجود التكليف بالمشاق غير المعتادة في الشريعة.
سابعاً: لو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير، ممّا يفضي إلى ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها، وهذا النوع لم تأت به الشريعة الإسلامية، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا يحصِّل مللاً، ونبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فقال: " القصد القصد تبلغوا " لذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التنطع وقال: " هلك المتنطعون "
أما استدلالهم بحديث: " بني سلمة دياركم تكتب آثاركم " فالجواب عليه من وجهين:
الوجه الأول: قال الإمام الشاطبي: " إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات، فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات "
الوجه الثاني: الحديث لا دليل فيه على قصد نفس المشقة، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ما يفسره فإنه - صلى الله عليه وسلم -: " كره أن تُعرّى المدينة قِبَل ذلك، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها "
لذلك فلا حجة لمن تعلق بهذا الحديث واستدل به على تقصد المشقة في العبادات والله أعلم.
أما احتجاجهم بحديث أمرنا أن نحتفي أحيانأ فالحديث لا يصح،وبيان ذلك كما يلي:
عن عبد الله بن بريدة، أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر فقدم عليه وهو يمد ناقة له فقال: إني لم آتك زائرا، إنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم، فرآه شعثا فقال: مالي أراك شعثا وأنت أمير البلد فقال
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه "
ورآه حافيا فقال: مالي أراك حافيا قال:
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحيانا "
قلت: الحديث صححه الشيخ الألباني حفظه الله في الصحيحة (2/ 4) وقال: " هذا إسناد صحيح أيضا على شرط الشيخين "وليس عند النسائي الأمر بالاحتفاء.
والحديث أخرجه أحمد 6/ 22. وأبو داود (4160) قال: ثنا الحسن بن علي. كلاهما (أحمد بن حنبل، والحسن بن علي) عن يزيد بن هارون قال: أخبرني الجريري عن عبد الله بن بريدة فذكره.
¥