ان ادعاء تعارض الأفعال على النبي - صلى الله عليه وسلم - من مستشنع الأمور، اذ كيف يعزى تضاد الأفعال لرجل ما فضلا عن نبي مشرع يوحي اليه، ولهذا يجب التأني والتريث عند ادعاء التعارض، فان كنا نستطيع حمل تعارض القولين على النسخ أو غيره، وحمل تعارض القول والفعل على الخصوصية وما شابهها، فاننا نجد صعوبة عند ورود تعارض الفعلين.
ولمزيد القاء الضوء على قضية تعارض الفعلين لابد من استطراد أصولي بين أقوال العلماء في هذه المسألة، وقد لخص أقوالهم ورتبها الدكتور محمد سليمان الأشقر، فهائنذا أنقل من كتابه (16) بتصرف قال:
1 - ذهب القاضي الباقلاني الى القول الأول، فرأى أن الفعلين لا يتعارضان، وأن التعارض فيهما محال، يقول في كتابه التقريب: “دخول التعارض على الفعلين محال، لأنه ان وقعا من شخصين، أو من شخص واحد في وقتين، أو على وجهين مختلفين لم يكن بينهما تعارض، لأن الفعل يكون من أحد الفاعلين قربة، ويكون من الآخر معصية، ويكون من الشخص الواحد في وقت قربة، وفي وقت آخر حراما” (17).
وقال العلائي (18): هذا القول هو الذي اطبق عليه جمهور أئمة الأصول”.
2 - وذهب جمع آخر من العلماء الى القول الثاني، وهو ان وقوع التعارض يفيد جواز فعل الأمرين، أو نسخ الأشد للأيسر كنسخ الوجوب للندب، أو نسخ التحريم للأقل وهكذا.
وحقيقة الأمر أن التعارض قد يرد، وواجبنا حينذا أن ننظر في كيفية ازالة هذا التعارض، لا في نفيه، أو القول باستحالته، وعلى هذا يجب التعامل مع الأمثلة اللاحقة.
ومثال ما وقع التعارض فيه بين الأفعال ما رواه البخاري (1) في “صحيحه” عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة.
ثم ما رواه ايضا (2) عن عبد الله بن زيد ان النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين.
وما رواه (3) عن عثمان بن عفان أنه دعا باناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الاناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه الى المرفقين ثلاث مرارظ، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار الى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه.
وشاهدي من سياقة هذه الأحاديث اظهار الاختلاف بين روايات هؤلاء الصحابة فقائل ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وآخر ذكر أنه توضأ مرتين مرتين، وثالث قال انه توضأ ثلاثا ثلاثا. فلو اعترض معترض على هذه الأفعال بالتناقض أو التدافع لوجد من يؤيده ويقف في صفه.
ولكن الفهم العميق، والتدقيق في اطلاق الألفاظ يأبي علينا الموافقة على تعارض هذه الأحاديث والأفعال، اذ من الممكن توجيهها وازالة الاختلاف عنها.
ولازالة التعارض يمكن حمل الأمر على الجواز، أي جواز الوضوء مرة مرة، وجوازه مرتين، وثلاثا. وقد جعل الشافعي (4) وابن خزيمة هذا الاختلاف من باب اختلاف المباح، قال الشافعي: “ولا يقال لشيء من هذه الاحاديث مختلف مطلقا، ولكن الفعل فيها يختلف من وجه أنه مباح، لا اختلاف الحلال والحرام، والأمر والنهي، ولكن أقل ما يجزيء من الوضوء مرة، وأكمل ما يكون من الوضوء ثلاث”.
وقال ابن خزيمة (1): “باب اباحة الوضوء مرة مرة، والدليل على أن غاسل اعضاء الوضوء مرة مرة مؤد لفرض الوضوء، اذ غاسل أعضاء الوضوء مرة مرة واقع عليه اسم غاسل، والله - عز وجل - أمر بغسل أعضاء الوضوء بلا ذكر توقيت، وفي وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، واعضاء الوضوء شفعا، وبعضه وترا دلالة على أن هذا كله مباح، وأن كل من فعل في الوضوء ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأوقات مؤد لفرض الوضوء، لأن هذا من اختلاف المباح، لا من اختلاف الذي بعضه مباح وبعضه محظور".
وهذا منهما محمل حسن، وهو نظير قولهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في المغرب بكذا وكذا، واخبار آخر أنه كان يقرأ بسور مختلفة وهكذا فان هذا كله لا يقال له اختلاف، انما هو من باب المباح. ولقد رأيت ابن حبان والبيهقي وابن عبد البر يسلكون هذا المسلك لدفع التعارض عن الافعال. وكذا غير واحد من العلماء غيرهم، الا أني رأيت ابن تيمية قد اطلق على اختلاف المباح اختلاف التنوع، وعلى ضده اختلاف التضاد، وهو اطلاق حسن.
¥