والذي به أجزم أنَّ الفئة الوحيدة التي برئت من التَّشبيه هي التي أثبتت لله - سبحانه - هذه الصفات وآمنت بها وأقرت، وفوَّضت كيفيتها لله - سبحانه وتعالى - وهو مذهب جمهور السَّلف، وبه أقول واعتقد فهم المنزِّهون حقاً.
ولهذا فمقولة: مذهب السَّلف أسلم، ومذهب الخلَف أحكم غير سليمةٍ، ((فمذهب السَّلف أسلم، ودع ما قيل من أنَّ مذهب الخلَف أعلم، فإنَّه من زُخرف الأقاويل، وتحيُّن الأباطيل، فإنَّ أولئك قد شاهدوا الرَّسول والتَّنزيل، وهم أدرى بما نزل به الأمين جبريل)) (1).
وما ينطبق على هذا الحديث من بحثٍ ينطبق على غيره من أحاديث الصِّفات، فظهر أنَّ التَّعارض مع قاعدة التَّنزيه، في هذا الباب متساقطٌ مرجوحٌ.
ثانياً: تنزيه الله عن التَّحيُّز والمكان.
ومن الأمور التي يدَّعُون فيها التَّنزيه أيضاً وبخاصَّةٍ المعتزلة، مسألة رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، إذ يرى المعتزلة ومن وافقهم أنَّ القول بالرُّؤية يقتضي التَّحيُّز والمكان، والله - تعالى - مُنزَّهٌ عنهما. فهم قد انطلقوا من التَّشبيه لينتهوا حسب زعمهم إلى التَّنزيه، وأنَّي لبدايةٍ غير سليمةٍ أن تُثمر نتائج صحيحةً؟.
قال السَّالمي (2) من الإباضية: ((رؤية الله تعالى من الأشياء التي لا يُتصوَّر في العقل صحَّة وجودها، لأنَّ العقل يحيل ذلك، وذلك أنَّ مِن لوازم الرُّؤية وشرائطها أن يكون المرئِيُّ متحيِّزاً، أي مُتشخِّصاً، والرَّب - تعالى - يستحيل عليه التَّشخيص، ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِي متكيِّفاً، أي ذا كيفٍ: أي لون، وذلك على الله محالٌ، ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِيُّ متبعِّضاً، أي ذا أبعاضٍ: أي أجزاء.
لأنَّ النَّظر إمَّا أن يحيط به كلَّه، وكلُّ محاطٍ به مُتبعِّضٌ ضرورةً وإمَّا أن يدرك بعضه، فظهر فيه البعض حيث أدرك فيه، وذلك في حقِّه - تعالى محالٌ. ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِيُّ مُتحيِّزا في جهةٍ من الجهات، أي حالاًّ فيها دون غيرها، والتَّحيُّز في حقِّه - تعالى محالٌ، ويستحيل عليه المكان أيضاً، ومن لوازمها أيضاً أن تكون الجهة التي فيها المرئِيُّ مقابلةٌ للرَّائي، لأنَّ النَّاظِر لا يرى إلا ما يُقابله، وذلك في حقِّه تعالى محالٌ، فاستحالت الرُّؤية في حقِّه لاستحالة لوازمها.
فظاهرٌ من هذا النَّقل أنَّ الخوارج والمعتزلة نفوا رؤية الله - سبحانه وتعالى - فِراراً من التَّشبيه فوقعوا في شرٍّ منه، ومسألة ورود التَّشبيه عليهم ظاهرةٌ من خلال ما تمَّ نقله عن السَّالمي.
والمعتزلة في النفي سلكوا نفس الدرب، ولكن بحجج عقليه أحيانا وحجج سمعية حينا آخرا ومنه قال القاضي عبد الجبار (1): "ومما يجب نفيه عن الله - تعالى - الرؤية، وهذه مسألة خلاف بين الناس، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة يتحقق بيننا وبين هؤلاء الأشعرية الذين لا يكيفون الرؤية، فأما المجسمة فهم يسلمون أن الله تعالى لو لم يكن جسما لما صح أن يرى، ونحن نسلم لهم أن الله تعالى لو كان جسما لصح أن يرى، والكلام معهم في هذه المسألة لغو.
ومسألة نفي الرؤية مسألة اجماع عند المعتزلة، تعاضد على انكارها كل واحد منهم، وحاول أن يدعمها بكل ما أوتي من قوة سواء عن طريق العقل أو النقل، لذا نجد أن مفسريهم جنحوا أيضا نحو تدعيم هذه الفكرة والاقتصار لها.
قال الزمخشري (2) عند تفسير قوله تعالى: *للذين أحسنو الحسنى وزيادة* (3): "وزعمت المشبهة والجبرة أن الزيادة: النظر الى وجه الله تعالى، وجاءت بحديث مرفوع (4): "اذا دخل أهل الجنة الجنة .. " الحديث.
وقال الجشمي (5) عند تفسير الآية ذاتها: "وأما من حمل الزيادة على الرؤية فقد أخطأ لوجوه: منها: أن حجج العقل والسمع دلت على أنه تعالى لا يجوز عليه الرؤية، ومنها: أنه ليس في الآية من ذكر الرؤية شيء، ومنها أنه لو كان المراد بالزيادة الرؤيا لكانت هي الأصل لا الزيادة، وما يروونه من أحاديث الرؤية من أخبار الآحاد فلا يصح قبول ذلك فيما طريقه العلم، وخبر تفسير الزيادة بالرؤية لا يثبت عند الرواة".
ونقل القاضي عبد الجبار (6) عن الشيخ أبي علي أنه قال: "واحتجوا بقوله *وجو يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة* (7) وهذا لا حجة لهم فيه، لأن النظر ليس هو الرؤية، فتحمل الآية على النظر الى الثواب، أو الانتظار كما روى عن كثير من الصحابة".
¥