فريقٌ كذِّبوا بهذا الحديث كأبي علي الجُبَّائيِّ وغيرِهِ، لأنَّه من المعلوم بالاضطرار أنَّ هذا خلاف ما جاءت به الرُّسل، ولا ريب أنَّه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - بل وجميع الأنبياء وأتباع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجَّة لمن عصى الله ورسوله.
وفريقٌ تأوّلوه بتأويلاتٍ معلومة الفساد: كقول بعضهم إنَّما حجَّه لأنَّه كان أباه، والابن لا يلوم أباه، وقول بعضهم لأنَّ الذَّنب كان في شريعةٍ، والملام في أُخرى، وقول بعضهم لأنَّ الملام كان بعد التَّوبه، وقول بعضهم: لأنَّ هذا تختلف فيه دار الدُّنيا ودار الآخرة.
وفريقٌ ثالثٌ: جعلوه عمدةً في سقوط الملام عن المخالطين لأمر الله ورسوله، ثمَّ لم يمكنهم طرد ذلك، فلابدَّ في نفس معاشهم في الدُّنيا أن يُلام من فعل ما يضر لنفسه وغيره، لكن مثل من صار يحجُّ بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره كمتا قيل في أهواء هؤلاء أنت عند الطَّاعة قدريٌّ وعند المعصية جبريٌّ.
وحتى نستطيع فهم هذا الحديث وفق أُصول أهل السُّنَّة والجماعة، وإزالة الإشكال الّذي يتبادر إلى الذِّهن من تأييد هذا الحديث لمذهب الجبريَّة، ومن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، يجب أنْ نفهم أصل نظرة أهل السُّنَّة للقدر. إذ " الإيمان بالقدر يقع على درجتين: (3)
إحداهما: الإيمان بأنَّ الله - تعالى - سبق في علمه ما يعمله العباد من خيرٍ وشرٍّ، وطاعةٍ ومعصيةٍ، قبل خلْقِهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنَّة، ومَنْ مِن أهل النَّار وأعد لهم الثَّواب والعقاب جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنَّه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنَّ أعمال العباد تجري على ما سبق علمه وكتابه.
والدَّرجه الثَّانيه: أنَّ الله - تعالى - خلق أفعال عباده كلِّهم من الكفر والإيمان، والطَّاعة والمعصية، وشاءها منهم ".
إذًا علينا أن نعلم أنَّ الله - سبحانه - سبق في علمه كلّ شيءٍ وهذا يتوافق مع طبيعة علمه تعالى المطلق، الّذي شمل الماضي والحاضر والمستقبل، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون. ثمَّ إنَّه تعالى هو خالق الأعمال ومقدرها، لا العبد. ولا يستطيع عاقلٌ إذا ارتكب معصيةً أن يقول إنَّي أخلق أفعال نفسي وأُريدها، وليس لله تدخُّلٌ فيها ألاّ علمها بعد وقوعها.
فالعبد يقوم بالفعل حقيقة ويختاره، ويفكِّر ويتأمَّل وقد يُقْدِم وقد يُحْجِم قبل أن يفعل دون أن يقهره أحدٌ أو يجبره على ما لا يريد، لتقوم عليه الحجَّة باختياره إن اختار السُّوء أو يُجازى بالحسنى إن فعل حسناً، مع الإيمان بأنَّ كلَّ ما يفعله المرء معلومٌ لله قبل خلق الخلق، مقدَّرٌ منه سبحانه، علماً وتقديراً لا يداخله ظلمٌ ولا حَيْفٌ، فمعرفة الله وعلمه بأفعال العباد وخلقها لهم، ليست من باب الإجبار، وإنَّما تفهم عند محاولة تصوُّر عظمة علم الله، فخالق الخلق أدرى بما سيفعلون وماذا سيختارون، وإلى أين سيصيرون.
وبناءً على ذلك فإنَّ الله سبحانه منذ خلق آدم، أو قبل أن يخلق آدم علم ماذا سيقترف آدم وماذا سيفعل، ليس لأنَّه أجبره، بل لأنَّه عالم بتكوينه، وبمقدار مجاهدته لنفسه ودفعها عن الخطأ والزَّلل، إذ إنَّه سبحانه قد حذره من الأكل من الشَّجره. {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُوْنَا مِنَ الظَّالِمِين} (1) فليس من المعقول في حقِّ العبد السَّويِّ، فضلاً عن المولى عزوجل أن يحذِّر شخصاً ما من شيءِ ثمَّ يحوك له المؤامرات ليجبره على اقتراف ما حذَّر منه. فالاحتجاج بالقدر متساقطٌ لأنَّه لم يجبره عليه، أمَّا إن قال الإنسان أنَّه معلومٌ لله فهو الَّذي قدَّره عليّ فيُقال له كما قال الله تعالى في مجادلة جبريَّة المشركين عندما قالوا {لَو شَاءَ الله مَا أشْرَكْنَا نَحْنُ وَلا آبَاؤنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيءٍ} (1) فقال الله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوُهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ الظَّنَّ وَإنْ أنْتُم إلاّ تَخْرُصُوُن} (2).
¥