قلت: وهذه الآراء في تعارض القياس مع خبر الآحاد، أمَّا الخبر المتواتر، فلا يقال إنَّه عارض القياس، لأنَّ القياس ظنِّيٌّ، والخبر المتواتر مقطوعٌ به.
والمرجَّح أنَّ الخبر إن عارض القياس من كلِّ وجهٍ، وجب المصير إلى الحديث لأنَّ تقديم القياس على الحديث ردٌّ له دون وجه حقٍّ، ثمَّ إنَّ القياس قد ينأى بصاحبه عن جادَّة الصَّواب.
ومثال ذلك: ما جاء من تحريم الميتة في كتاب الله - عزوجل - حيث قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ .... } (1).
فالآية تنصُّ على أنَّ الميتة، والسَّمك الميِّت يقاس على الغنم الميِّت في تحريم أكله، إلاّ أنَّ هذا القياس يصطدم بقول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -: " أُحِلّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأمَّا المَيْتَتَانُ فَالحُوتُ وَالجَرَادُ، وَأمَّاالدَّمَانُ فَالكَبِدُ وَالطُّحَالُ " (2).
فالحديث هنا يتقدَّم على القياس، ويجب العمل به وترك القياس.
المطلب الثَّاني: تعارض الحديث ومُسلَّمات العلوم، ومُجَرّباتها.
سينصبُّ الحديث في هذا المطلب على مُسلَّمات العلوم وتعارضها مع الحديث والمُسلَّمات: هي الحقائق الّتي وصلت إلى درجة القطع، ولهذا لم أتشاغل بذكر تعارض الحديث أو النَّص مع فَرَضِيَّاتٍ علميَّةٍ، أو نظريَّاتٍ لم تثبت صحتها، لأنَّها في مرحلة الأخذ والرَّد فقد تثبت وتصبح حقيقةً، وقد لا تثبت وتتساقط، مما لا يؤهِّلها لمعارضة الرَّأي فضلاً عن السُّنن والنُّصوص.
ومثال ذلك الحديث الصَّحيح الذي أخرجه البُخاريُّ (1) عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال النَّبيُّ- صلّى الله عليه وسلّم- له حين غربت الشَّمسُ:"تَدْرِي أيْنَ تَذْهَبُ "؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال:" فَإنَّهَا تَذْهَبُ حَتّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ فَتَسْتَأذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أنْ تَسْجُدَ فَلا يُقْبَلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأذِنَ فَلا يُؤْذَنُ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَاَلى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيُر العَزِيز العَلَيْم} (2).
فالحديث يعارض ما ثبت عليه العلم الحديث من أنَّ الشَّمس إنْ غربت في جهةٍ تطلع في جهةٍ أُخرى، وما اختفاؤها عنَّا إلاٌ ظهورٌ لها على غيرنا، فكيف نفهم الحديث إذاً؟.
لقد تكلَّمت على الحديث بتوسُّعٍ في الباب الثَّالث في الفصل الأوّل منه، ولكن يكفيني أن أُشير هنا إلى أنَّ الحديث لا يُؤخذ على ظاهره من اختفاءٍ للشَّمس على الكُرة الأرضيَّه وذهابها للسُّجود تحت العرش، وإنَّما يمكن فهم السُّجود بأنَّه الخُضُوع والانقياد المطلق لله- سبحانه وتعالى-، ولهذا فإنَّ الحديث يتكلَّم على ظاهرةٍ ستحدث وهي عدم ظهور الشَّمس كعادتها من المَشْرِق، وانقلاب حالها والظَّهور من جهة المغرب في يوم ما من الزَّمان، وقد جاء وصف هذا اليوم في أحاديث وآثارٍ كثيرةٍ.
ووصف السُّجود، والاستئذان، وعدم الإذن، تقريبٌ لما هو عليه حال الكواكب كلّها من خُضوعٍ لبارئها، وانصياعها لقانون أودعه الله فيها لا يتخلَّف إلّا متى شاء الله سبحانه.
ومن أمثلة هذا النَّوع ما رواه الشَّيخان (3) عن سعد بن أبي وقاصٍ أن رسول الله- صلّى
الله عليه وسلّم-قال:" مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمْرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ اليَومَ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ ".
قال المَازريُّ (1): " هذا مما لا يُعقل معناه في طريقة علم الطِّبِّ، ولو صحَّ أن يخرج لمنفعة التَّمر في وجهٍ من جهه الطِّبِّ، لم يُقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الّذي هو سبْعٌ، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الّذي هو العجوة، ولعلَّ ذلك كان لأهل زمانه - صلّى الله عليه وسلّم - خاصَّةً أو لأكثرهم، إذ لم يثبت عندي استمرار وقوع الشِّفاء بذلك في زمننا غالباً، وإنْ وُجد ذلك في الأكثر حُمل على أنَّه أراد وصف غالب الحال ".
ونقل ابن حَجَرٍ (2) عن القاضي عِياض أنَّه قال: تخصيصه ذلك بعجوة العالية وما بين لابتي المدينة يرفع هذا الإشكال ويكون خُصوصاً لها.
¥