وقد استشكل غير واحدِ من العلماء هذا الحديث لهذه العلَّة، وقد حرَّر ابن قيِّم الجّوْزيَّة أدلته وأدلة العلماء المُستشكلين، مرَّةً بالإجمال وأُخرى بالتَّفصيل فقال في ردِّه الإجمالي كما في"تهذيب سنن أبي داود": والرَّاجح البَداءة بالرُّكبتين لوجوهٍ.
أحدها: إنَّ حديث وائل بن حُجْرٍ لم يخْتلف علينا، وحديث أبي هُريره قد اختلف فيه كما ذكرنا.
الثَّاني: إنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - نهى عن التَّشبُّه بالجمل في بُروكه، والجمل إذا برك إنَّما يبدأ بيديه قبل ركبتيه .......... الخ.
وقال في ردَّه التَّفصيلي على هذا الحديث (2): " وأمَّا حديث أبي هُريره يرفعه: " إذَا سَجَدَ أحَدُكُمْ فَلا يَبْرُكَ كَمَا يَبْرُكُ البَعِيْرِ، وَلْيَضَعَ يَدَيهِ قَبْلَ رُكْبَتَيهِ " فالحديث -والله أعلم- قد وقع فيه وهمٌ من بعض الرُّواة، فإنَّ أوّّله يُخالف آخره، فإذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير، فإنَّ البعير إنَّما يضع يديه أوّلا، ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا: ركبتا البعير في يديه، لا في رجليه، فهو إذا برك وضع ركبيتيه أوّلاً، فهذا هو المنهيُّ عنه، وهو فاسدٌ لوجوهٍ:
أحدها: إنَّ البعير إذا برك فإنَّه يضع يديه أوّلاً وتبقى رجلاه قائمتين، فإذا نهض فإنَّه ينهض برجليه أوّلاً، وتبقى يداه على الأرض، وهذا هو الذي نهى عنه-صلّى الله عليه وسلّم-وفعل خلافه .......
الثَّاني: إنَّ قولهم ركبتا البعير في يديه كلام لا يُعقل، ولا يعرفه أهل الُّلغة وإنَّما الرُّكبه في الرِّجلين، وإن أُطلق على اللّتين في يديه اسم الرُّكبه فعلى سبيل التَّغليب.
واستدل ابن القيِّم باستدلالاتٍ أُخرى، لا أجد طائلاً من ذكرها.
فكلام ابن القيِّم من أوضح الحجج لمن رفض هذا الحديث، بعد حجج من ضعَّفه، ولكن هل يقبل كلام ابن القيِّم وأحكامه التي أطلقها؟.
قلت: إنَّ أغلب اعتراضات ابن القيِّم مبنيَّةٌ على المشاهدة، أي مشاهدة أحوال البعير إذا برك، لذا تمسَّك ابن قيِّم الجَوْزيَّة - رحمه الله - بظاهر المشاهد وأنكر خلافه، بل ادَّعى أنَّ ما يقال من أنَّ ركبتي البعير في يديه كلامٌ لا يعقل، ولا يعرفه أهل الُّلغة. والحال غير ذلك، إذ هو منقولٌ عن أهل الُّلغه، ومن كتب في الغريب وغيره، وهذا بيان ذلك:
قال الطَّحاويُّ (1) ردَّاً على من يقول هذا القول: " فتأمَّلنا ما قال من ذلك، فوجدناه مُحالاً، ووجدنا ما روي عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - في هذا الحديث مُستقيماً لا إحالة فيه، وذلك أنَّ البعير ركبتاه في يديه، وكذلك كلَّ ذي أربعٍ من الحيوان، وبنو آدم بخلاف ذلك لأنَّ ركبهم في أرجلهم لا في أيديهم، فنهىَ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - في هذا الحديث المُصلِّي أن يَخِرَّ على رُكبتيه الّلتين في رجليه كما يَخِرُّ البعير على رُكبتيه الّلتين في يديه، ولكن يَخِرُّ لسجوده على خلاف ذلك، فيَخِرَّ على يديه الّلتين ليس فيهما ركبتاه، بخلاف البعير على يديه الّلتين فيهما ركبتاه. "
وهذا الفَّهم من الطَّحاويِّ لم يأتِ من فراغٍ، وإنَّما هو مرويٌّ عن أهل الُّلغه كذلك، وقال الخليل بن أحمد (2) في تأييد ذلك: " وركبة البعير في يده، وقد يقال لذوات الأربع كلها من الدَّواب رُكبٌ،وركبتا يدي البعير: المِفصلان الّلذان يليان البَطن إذا برك، وأمَّا المِفصلان الَناتئان من خلْفٍ فهما العُرْقُوبان ". ووافقه عدد ممَّن صنَّفوا في المعاجم.
إضافة إلى ذلك نقل الألبانيُّ (3) وشعيب الأرنؤوط (4) عن قاسم بن ثابت السَّرقُسْطِيِّ (5) في " غريب الحديث ": 2/ 70 أ بسندٍ صحيحٍ عن أبي هُريره أنَّه قال: لا يبرك بروك البعير الشَّارد قال الإمام: هذا في السُّجود يقول: لا يرمي بنفسه معاً كما يفعل البعير الشَّارد، غير المطمئِنِّ المُواتر،ولكن ينحطَّ مطمئناً يضع يديه ثمَّ ركبتيه، وقد روي حديثٌ مرفوعٌ مُفسِّرٌ ". وذكر حديثنا هذا.
¥