ومنها الحديث الّذي أخرجه البُخاريُّ (2) عن أبي هُريرة قال: سمعت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم - يقول: "لا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلاّ يَوْمَاً قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ ".
فواضحٌ أنَّ بين هذين الحديثين وحديث النَّهي عن صيام السَّبت تعارُضاً ظاهراً، إذ هما يُجيزان للمرء أن يصوم السَّبت إن صام قبله الجُمُعه، وواضحٌ أنَّ سِياق الحديثين لم تذكرالفريضة فيهما، بل ما تَطوُّعٌ محضٌ، بعكس حديث الباب. ولا يفهم من استشهادي بهذين الحديثين أنَّهما المعارضان لحديث النَّهي عن صيام يوم السَّبت فحَسبُ، إذ أنَّ هناك أحاديث أُخرى يُفهم من سياقها التَّعارض والتَّناقض. ومنها: حديث صيام داود (3) أنَّه كان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ممَّا يُوجب أن يقع ضمن صيامه يوم السَّبت مرتين كلَّ شهرٍ على الأقلِّ، وكذلك صيام الأيام البِيْض (4) من كلِّ شهرٍ، فإنَّه لابدَّ أن يُصادف السَّبتُ أحدَ هذه الأيام إلى غير ذلك من الأحاديث المُعارضة.
(2) المستدرك: 1/ 436.
(1) البُخاريُّ الصوم/63 صوم يوم الجمعة:2/ 248، وأبو داود، الصوم / الرخصة في ذلك:2/ 321 رقم 2422، وأحمد في "المسند":6/ 324،340، وعبد ابن حُميد في"المنتخب":449 رقم (1557) وابن خُزَيمة في "الصحيح":3/ 216رقم (2163).
(2) الصحيح: 2/ 248 كما أخرجه مُسلم، الصيام / 24 كراهية صوم يوم الجمعة منفرداً:2/ 801 (1144) بلفظ: "لا يَصُمْ أحَدُكُم .. "وأبو داود:2/ 320 رقم (2420)، والتِّرمِذي، الصوم / 24 كراهية صوم يوم الجمعة وحده:3/ 119 رقم (743).
(3) وداود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويُفطر آخر، وقد وصف النَّبَّي صيامه هذا بخير صومٍ، ووجه الدِّلالة فيه أنَّ من صام يوماً وأفطر آخر لابدَّ أن يصادف السَّبت في كلِّ أُسبوعين مرةً، ممّا يُعدُّ متعارضاً مع الحديث. وحديث صوم داود جاء بصيغٍ كثيرةٍ أخرج بعضها البُخاريُّ،الصوم / 56 صوم الدهر: 2/ 245،255، وغير ذلك،ومُسلمٌ، الصيام / النهي عن صيام الدهر:2/ 812 - 818 رقم (1159) بمكرراته، والنَّسائيُّ،قيام الليل / ذكر صلاة نبي الله داود:3/ 214، وابن ماجه، الصيام / ما جاء في صيام داود: 1/ 546 رقم (1712)، (1713)، والدَّارميُّ، الصوم / صوم داود:2/ 20 وغيرهم.
(4) ووجه الدِّلالة أنَّ صيام الأيام البيض من كلِّ شهرٍ، يُدخل السَّبت ضمن هذه الأيام في كلِّ شهرين مرةً، وحديث صيام الأيام البيض أخرجه: البُخاريُّ، الصوم / 60 صيام أيام البيض:2/ 247، وأبو داود، الصوم / صوم الثلاثة
وعلى هذا فإنَّنا يجب أن نفهم أن هذا الحديث معارضٌ لجملةٍ من الأحاديث، وليس لحديثٍ واحدٍ، ولذلك اختلفت أقوال العلماء في الحديث، وفي توجيه التَّعارض والتَّناقض في الحديثين، في كلام يطول ويتفرَّع، وسوف يكون كلامي على هذا الحديث من وجهين؛ أوّلهما: النَّظر في صحَّة الحديث، وثانيهما: النَّظر في توجيهه في مقابلة هذه الأحاديث المعارضة له.
أمَّا بالنِّسبة للنَّظر في صحَّة الحديث فقد اختلف العلماء والباحثون قديماً وحديثاً في صحَّة هذا الحديث، وفي حُجِّيته، فمن كاتمٍ ومُكذِّبٍ ومُضَعفٍ له، إلى مُصحِّحٍ له،بل إلى من يضعه في أعلى درجات الصِّحَّة، ويجعله أصلاً تتفرَّع عنه مسائل.
وللوقوف على حقيقة ذلك أنقل ما يلي:
روى أبو داود (6) عن مالك أنَّه قال: هذا حديثٌ كذبٌ.
من كل شهر: 2/ 328 رقم (449) والتِّرمِذيُّ، الصوم / ما جاء في صوم ثلاثة أيام:3/ 133 - 134 رقم (760) و (761) وغيرهم.
(6) "السنن":2/ 321 رقم (2424).
طريقة من صحَّحَه، ورجَّح عبد الحقِّ الرِّواية الأولى، وتَبِع في ذلك الدَّارقُطني، لكنَّ هذا التَّلوُّن في الحديث الواحد، بالإسناد الواحد، مع اتِّحاد الَمْخرج، يُوهِّن روايه، ويُنْبِىءُ بِقلَّة ضَبطِهِ، إلاّ أنْ يكونَ من الحُفَّاظ المُكثرين المعروفين بجمع طُرق الحديث فلا يكون ذلك دالاً على قِلَّة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا، بل اخْتُلِف فيه أيضاً على الرَّاوي عن عبد الله بن بُسرٍ أيضاً".
¥