وقد بحث ابن القيِّم (1) هذا الحديث بحثاً طويلاً تناول فيه أقوال من رفَض الحديث وضعَّفه، أو حمله على النَّسخ أو غيره فأجاب عما احتوته، وتعرَّض لأقوال من كرِه الحديث وتعرَّض لحُجَجهم ثُمَّ قال (2):"واحتجَّ الأثرم بما ذُكر في النُّصوص المتواترة على صوم يوم السَّبت، يعني أن يُقال: يمكن حمل النُّصوص الدَّالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النَّهي على صومه وحده، وعلى هذا تتَّفقُّ النُّصوص.
وهذه طريقةٌ جيِّدةٌ لولا أنَّ قوله في الحديث: "لا تَصُوُمُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلاّ فِيْمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ " دليلٌ على المنعِ من صومه في غير الفرض مُفرداً أو مضافاً، لأنَّ الاستثناء دليل التَّناول، وهو يقتضي أنَّ النَّهي عنه يتناول كُلَّ صُور صومه، إلا صورة الفرض، ولو كان إنَّما يتناول صُورة الإفراد لقال: لا تصوموا يوم السَّبت إلا أن تصُوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، كما قال في الجُمعة.
فلمَّا خصَّ الصُّورة المأذون في صَومها بالفريضة، عُلم تناول النَّهي لما قابلها، وقد ثَبت صوم يوم السَّبت مع غيره بما تقدَّم من الأحاديث وغيرها، كقوله في يوم الجمعة: "إلا أنْ تَصُومُوا يَوماً قبله أو يَوْماً بَعْدَه" فدلَّ على أنَّ الحديث غيَر محفوظٍ وأنَّه شاذٌّ، وإلى مثل هذا
(1) انظر: تهذيب السنن لأبي داود: 3/ 297 - 301.
(2) المصدر السابق: 3/ 298.
ذهب شيخه ابن تَيميَّة قبله وقال (3): بعد أن ساق أقوال بعض من رفض الحديث: "وعلى هذا فيكون الحديث إمَّا شاذّاً غير محفوظٍ وإمَّا منسوخاً، وهذه طريقة قُدماء أصحاب أحمد الذين صحِبوه، كالأثرم، وأبي داود ... "وقال (4):"وأمَّا أكثر أصحابنا ففهِموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحملِه على الإفراد، فإنَّه سُئِل عن عين الحكم فأجاب بالحديث، وجوابُه بالحديث يقتضي اتِّباعُهُ ".
وخلاصة القول في هذا الحديث بأنَّه يحتمل أحد أمرين:
أوّلاً: الجمع، وهذا يقود إلى قبول قول من حمل النَّهي على أنَّه نهيٌ عن إفراد الصَّوم يوم السَّبت، لا منع الصَّوم مُطلقاً.
ثانياً: التَّرجيح وهنا يرجح قول من - ذكر أنَّ الحديث شاذٌّ.
لذا فإنِّي أُرجِّح القول الأول، مختتماً ومستشهداً بكلمة لمرعي الكرمي (1) وهي نهايةٌ في التَّحقيق حيث قال (2): فهذا الشَّارع قسَّم الأيام باعتبار الصَّوم ثلاثة أقسامٍ:
قسمٌ شُرع تخصيصه بالصِّيام إمَّا إيجابا كرمضان، أو استحباباً كيوم عرفة وعاشوراء.
وقسمٌ نُهي عن صومه مُطلقاً كيوم العيدين.
وقسمٌ نُهى عن تخصيصه كيوم الجُمعة، وسُرَر شعبان، وإفراد صوم السَّبت، وإفراد رجب، فلو صِيم مع غيره، أو وافق عادةً لم يُكره.
ثانياً: ورود التَّعارض في قولين؛ أحدهما دلالته ظاهرةٌ، والآخر دلالته مُستنبطةٌ، ومثال ذلك: قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - لرجل عندما وجده يمشي بين القُبور وعليه نعلان
(3) اقتضاء الصراط المستقيم: 263.
(4) المصدر السابق: 264.
(1) هو مَرْعِي بنب يوسف بن أبي بكر الكَرمي، المقدسي الحنبلي، ولد بطور كرم بفلسطين، وهو من مُحقِّقي الحنابلة له عددٌ كبيٌر من المصنَّفات، سردتها في مقدمة تحقيق "القول المعروف" له، توفي سنة (1033هـ/1624م).انظر ترجمته: المحبي - خلاصة الأثر: 4/ 358 - 369. البغدادي - هدية العارفين: 2/ 426 - 427، الزِّركلي - الأعلام: 7/ 203 كحالة - معجم المؤلفين: 12/ 218 - 219، ومقدمة القول المعروف له: 15 - 26 منشورات جمعية الحديث الشريف - الأردن ط الأولى 1416هـ/1995م.
(2) انظر: شفا الصدور في زيادة المشاهد والقبور: 108ب - 109أ. مخطوط في درا الكتب الوطنية بتونس،وقد قمت بتحقيقه وهو تحت الطِّباعة في مكتبة أضواء السلف بالرياض.
فناداه النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - "يَا صَاحِبَ السَّبْتِيَّتَيْنِ وَيْحَكَ ألْقِ سِبْتِيَّيَتْكَ" فنَظر الرَّجل فلمَّا عرف رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - خلعهما فرمى بهما (3).
فهذا الحديث الصَّريح في منع المشي بين القُبور بالنِّعال يُعارضه حديثٌ آخر فُهِم منه جواز المشي بين القبور بالنِّعال، وهو ما روى البُخاريُّ (4) ومُسلمٌ (5) والّلفظ له - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -:"إنَّ الميِّت إذا وُضِع في قَبْره، إنَّه لَيَسمع خَفْق نِعالِهم إذا انْصرفوا".
¥