تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثالثاً: بجانب ما روي عن الإمام أحمد في إحدى روايتيه بتحريم مسألة التورق باعتبارها صورة من صور بيع العينة، فقد روي عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ منع العينة بناء على عدم القبض من البيعة الأولى أو القبض الصوري الذي يُتخذ وسيلة وذريعة إلى الربا (4). وتحريم الوسائل من الأمور التي جاء الشرع بها وقال بها الأئمة، فمن ذلك أن الشافعي ـ رحمه الله ـ يحرم مسألة «مد عجوة (نوع من التمر)»، و «درهم بمد ودرهم»، وبالغ في التحريم خوفاً من أن يتخذ حيلة على نوع من ربا الفضل، فالتحريم للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النسيئة أولى من تحريم «مد عجوة» بكثير، فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل؛ أخف من التحيل بالعينة على ربا النساء (5) الذي هو الغاية التي تسعى إليها البنوك في تعاملها من خلال التعامل في شراء وبيع السلع في سوق السلع العالمي (البورصة) المستقبلية، فإن مفسدة ربا الفضل في مسألة «مد عجوة» أقل من مفسدة استخدام التورق لاستحلال ربا النسيئة. فلا يتعامل بالتورق إلا مضطر إلى الاقتراض، فالمستغني عنه لا يثقل ذمته بزيادة في شراء السلع مؤجلاً ثم بيعها بخسارة بدون ضرورة وحاجة، وقد روى أبو داود من حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن تدرك». وقد أوضح ابن القيم أن شراء المضطر للسلعة ثم بيعها لبائعها بأنها العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بين البائع والمشتري، فهو محلل الربا. والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق، وقد كرهه عمر ابن عبد العزيز وقال هو آخية الربا (6)، وتشبيه عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بأن التورق هو للربا بمثابة الحبل الموثق إلى وتد تُربط به الدابة، فالدابة لا يمكن لها الفكاك من هذا الرباط، وكذلك التورق هو مربوط بالربا.

رابعاً: إن استخدام صيغة التورق بالشراء والبيع في سوق البورصة، مع استخدام أسلوب المرابحة في تحديد مقدار الربا الذي سوف يؤخذ على المال الذي سوف يتم إقراضه للأفراد والمؤسسات والشركات، أو اقتراضه من المودعين؛ إنما هو حيلة لأخذ الربا وإعطائه، وتجويز ذلك يتناقض مع ما ورد من النهي عن الحيل لاستحلال الحرام، وهذا التحايل الذي تمارسه البنوك فتح الطريق لأكل الربا وتوسيع نطاقه بين المسلمين، ومعلوم أن الحيل تتناقض مع القاعدة الشرعية، وهو ما يعرف بـ «سد الذرائع»، فالشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل وسيلة ممكنة، والمحتال يفتح الطريق بالحيل، واستخدام صيغة التورق في التعامل مع البنوك من خلال البيع والشراء للسلع في سوق البورصة قد أدى إلى الوقوع في الحرام، يقول ابن القيم: (ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله وأسقط فرائضه بالحيل كقوله: (لعن الله المحلل والمحلل له)، و (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها)، (لعن الله الراشي والمرتشي)، (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده)، ومعلوم أن الكاتب والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهرة .... وآكل الربا مستحله بالتدليس والمخادعة، فيظهر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة، فهذا يشمل الربا بالبيع، وذلك يستحل الزنا باسم النكاح، فهذا يفسد الأموال وذاك يفسد الأنساب) (1)، وهذه العقود التي تمارسها البنوك لا تعدو في واقع الأمر بأنها حيلة لاستحلال الاقتراض والإقراض بالربا باسم البيع والشراء.

خامساً: من القواعد التي يقوم عليها التشريع الإسلامي: أن العبر بالمقاصد والنيات، بدليل حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ المشهور: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» الحديث، ولهذا لا بد من النظر إلى المقصد والغاية من صيغة التورق في تعامل هذه البنوك في حقيقة أمرها، وبموجب التنظيمات التي تحكمها، وبموجب عقود تأسيسها، فإنها مبنية على أساس أن النقود هي مجال عملها، فهي تتاجر في النقود وليست تتاجر بالنقود، كما يمارس من قِبَل الأنشطة الاقتصادية الأخرى، فهذه البنوك تخضع في أعمالها لأنظمة ومعايير البنوك المركزية، ومن تلك البنوك مؤسسة النقد التي تشرف على أعمال البنوك وفق المعايير الدولية، ومن مجالات

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير