من الآيات الكثيرة في هذا الصدد، فكان دوام العذاب جزاءً وفاقًا على قدر الجريمة
والمعصية، ألا ترى لو أن ملكًا وضع قانونًا لرعيته بيّن فيه عقاب كل جريمة،
واقتضى نظام رعيته، وأمن كل واحد منهم على نفسه وماله وعرضه أنه جعل عقوبة
جريمة القتل مثلاً السجن الدائم مع الأشغال الشاقة، وأعلن ذلك على رعيته، ثم
ارتكب بعد ذلك واحد منهم تلك الجريمة، فعاقبه عليها بمقتضى قانونه الذي علم
الجاني قبل إقدامه على الجناية، فالعقل لا يستقبح ذلك، بل يعده العقلاء عدلاً
وحسنًا، فكذلك صنع الله الحكيم في خليقته جعل عقاب الكفر عذابًا أليمًا دائمًا في
دار الآخرة؛ لأنه جحود بنعمة من لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته، وقد بين
كل ذلك على لسان رسله، ونصب الأدلة في الأنفس والآفاق، ووعد أولئك الكفار
أنهم إن تابوا - أي: في الدنيا - يغفر لهم ما قد سلف فضلاً وكرمًا، وقال سبحانه:
] قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ [(الأنفال: 38)، ثم إنه لا
شك أن الملك إذا وضع قانونًا وجعل فيه لكل جريمة عقابًا، فإذا لم يجزم الناس بأن
ذلك الملك يوقع عقاب كل جريمة على فاعلها كان جعل تلك العقوبات في ذلك
القانون عبثا ولا يفيد فائدته المطلوبة، ولولا قوله تعالى:] وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن
يَشَاءُ [(النساء: 48) ما كان العقل يجيز العفو عن غير المشرك، ولكنه حيث
قال - وقوله الحق - قلنا بجوازه.
وأما الثاني: فلا شك أنه جاء ما لا يحصى في القرآن والسنة المتواترة مما
يدل على خلود الكفار في النار والعذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها، ودعوى عدم
صراحة الآيات والأحاديث في دوام العذاب، فهو بفرض تسليمه يرد بأنها: إن لم
تكن صريحة فيه فهي فيه ظاهرة، وقد صرح الأصوليون بأن دلالة الظواهر
الكثيرة على ما يظهر منها قطعية، على أن قوله تعالى:] وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [
(المائدة: 37) بعد قوله:] وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا [(المائدة: 37) كما ينفي
موتهم فيها مع بقائها ينفي فناءها حيث وصف نفس العذاب الحاصل بالنار بأنه مقيم؛
أي: دائم، ولولا هذه النكتة لم يكن له فائدة بعد قوله:] وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا [
(المائدة: 37) كما لا يخفى.
وأما الثالث: فمبني على أن الكفار أكثر من المؤمنين كما يقتضيه قوله تعالى:
] وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [(هود: 17) فيكون المعذبون الخالدون أكثر
من المنعمين، فكيف تكون دائرة رحمته أوسع من دائرة عقابه؟ نقول: إن هذه
الكثرة بالنسبة إلى بني آدم فقط، وبنو آدم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور
والولدان:
] وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [(المدثر: 31) ,] وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [
(النحل: 8) فيكون أهل الرحمة أكثر أهل من أهل الغضب، على أن أهل النار
مرخومون في عذابهم، فإن ما عند الله من كل شيء لا يتناهى، وبعض الشر أهون
من بعض، وهم مختلفون في العذاب، وإن ظن كل واحد من أهلها أنه أشد الناس
عذابًا، لكن الكلام إنما هو في الواقع ونفس الأمر، على أن الجميع ما داموا في
دائرة الوجود والحياة فهم في دائرة رحمة الله والفيض العميم، فإن كلاًّ منهما من
النعم التي يحافظ عليها الإنسان ويتجشم لأجلها أبشع الأدوية.
وأما الرابع: فلم يقل أحد: إن التوبة تنفع في الآخرة، فأما من تاب في هذه
الدار - دار العمل - من الكفر، فقد أبدل الكفر القبيح بضده الحسن اختيارًا منه،
وامتثالاً لأمر الله تعالى، فهناك كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى
هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها العمل أو يضر، ويمكن للعبد
باختياره أن يتدارك ما فاته من الأعمال الحسنة، وأن يندم على ما عمله من
الأعمال القبيحة فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن، قال تعالى:] إِنَّ الحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [(هود: 114) فلا بدع في مغفرة الله جودًا
وكرمًا ورحمة وفضلاً، وأما في الدار الآخرة التي هي دار الجزاء على الأعمال، لا
دار عمل فلا تنفعهم التوبة أصلاً، فقد اختلفت الداران وامتاز الفريقان] فَرِيقٌ فِي
¥