تعالى:] وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [(الحج: 18)
فلننظر إلى قوله تعالى عقب الآية، أفليس قوله هنا:] إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [
كقوله عقب آية هود] إنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [(هود: 107) التي كاد يشبهها
علينا ابن القيم - رحمه الله - بقوله: (ولم نعلم ما يريده بهم) أي الذين شقوا. قال:
وأما الذين سُعدوا فقال فيهم:] عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [(هود: 108) فبالله ألا فتأملوا
أيها المنصفون، فوالله لقد أخطأ ابن القيم إن كان يعتقد أن قوله تعالى:] إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [(هود: 107) فيها إلماع أو إشارة إلى فناء النار، ومن يفهم هذا
الفهم أو يجوِّزه بعد أن سمع ما أوردناه وما سنورده؟ ! قال تعالى:] إِنَّ اللَّهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يُرِيدُ [(الحج: 14) ماذا يقول الفنائيون في هذه الآية أيضًا؟ أيقولون لا ندري
ماذا يريد الله بأهل الجنة، كما قالوا في آية هود؟ وإلا فما الفرق بين الخبرين؟
فليخبرونا ولهم الثواب [7]، فقد علم كل من له أدنى تأمل في القرآن أن إرادة الله
تعالى ومشيئته قد عُلمت في أهل الجنة وأهل النار، وأن كُلاًّ قد قُضي عليه بالخلود
في داره التي خلق لها وسعى لها سعيها، وظهرت تلك المشيئة في الفريقين بأجلى
مظاهرها، فترى أهل النار لا يهتدون، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، وأهل
الجنة موفقون مهديون] وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [
(هود: 119) قال تعالى:] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [(إبراهيم: 27) ألم يبين
الله لنا مشيئته هنا أيضًا بالمؤمنين والظالمين؟ ألم يكن ختامها هنا كختامها في سورة
هود؟ هل يفهم منها هنا إلا كما يفهم من تلك؟ وأن المعنى: لا اعتراض على فعل
الله لأنه هو الحكمة التامة والعدل الأعلى وأنه لا مُكره له ولا رادَّ لما قضاه. أم يقال
ما قرره الفنائيون الذين نظروا لآية واحدة وتركوا سائر الآيات، فقالوا: أما الذين
سُعدوا فأخبرنا الله أن عطاءهم غير مجذوذ، وأما الذين شقوا فلم يبين لنا ماذا يريد
بهم، والحق أنه بيَّن وبيَّن كما سمعتَ وعلمتَ.
وأما الكلام في آية (النبأ) فلا دليل فيها لهم، وآخرها يَرُدُّ عليهم؛ إذ يقول
الله تعالى:] فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً [(النبأ: 30) و (لن) تفيد الاستقبال
حتى احتج بها الزمخشري على نفي الرؤية (رؤية الله في الجنة) في قوله تعالى
لموسى:] لَن تَرَانِي [(الأعراف: 143) وفرق بين الخبرين، فإن هذا نفي
الرؤية في الدنيا، وأما الثاني فنفي في الآخرة. وقوله تعالى آخر السورة:] وَيَقُولُ
الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً [(النبأ: 40) دليل على أن الكافر كان يود لو كان ترابًا
ولا يعذب خالدًا، ولا يقال تمنيه ذلك كافٍ لرؤيته العذاب فحسب دون الخلود؛ لأنه لو
كان يعلم أن النار تفنى من الآن كما يقولون لظل على أمله ورجائه في رحمة الله [8]
كما فهم ابن القيم من حديث (لو يعلم الكافر بسعة رحمة الله ما يئس، ولو يعلم
المؤمن بأليم عذاب الله - أو نحو ذلك - لقنط) وقوله تعالى:] لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [
(النبأ: 23) لا يدل على انقطاعها كما قدمنا، فإنما المقصود التهويل، وأن
الأحقاب قد تأتي متتابعة ولا تتناهى، أرأيت لو كنا هنا في الدنيا خالدين أما كنا
نقول مضت علينا أحقاب، ونعد الزمن وهو باق كما يمكن أن نعد شيئًا لا يحصى
بالألوف والملايين، وأقصى فعل من الحساب كالديشليون وكلما فرغت الفصول
أعدناها من الأول عدًّا ولم يفرغ المعدود، فمن يستنكر ذلك؟ وهل هذا إلا من باب
قوله تعالى في أهل النار:] خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [(هود:
107) والغرض: الخلود الذي لا نهاية له؛ لأن المخاطبين يجهلون بدء
¥