وقد أنكر البخاري رحمه الله نسبة هذا القول إليه، وقال - كما نقل عنه محمد بن نصر المروزي -: " من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت أفعال العباد مخلوقة "، فنقلها عنه بعض الحساد والمغرضين، وأشاعوا عنه أنه يقول باللفظ، وحملوا عبارته ما لا يحتمل.
ولذا لم يلتفت العلماء وأئمة الجرح والتعديل إلى ذلك بل عدوه من كلام الأقران بعضهم في بعض، وأصلوا قاعدتهم المعروفة وهي أن " كلام الأقران يطوى ولا يروى "، ولذا قال الذهبي رحمه الله في (السير 12/ 456) بعد أن ذكر أن بعضهم ترك حديث البخاري لما بلغه أنه يقول باللفظ: " قلت إن تركا حديثه أو لم يتركاه البخاري ثقة مأمون محتج به في العالم ".
وقد تكلم كثير من العلماء الثقات في بعض، ولم يكن ذلك موجباً لإسقاط ثقتهم وعدالتهم فتلكم أبن أبي ذئب في الإمام مالك، وتكلم سلمة بن دينار في الزهري، وتكلم عمرو بن علي الفلاس في علي بن المديني والعكس، وتكلم أحمد بن أبي الحواري في هشام بن عمار، وتكلم أبو نعيم في أبي عبد الله بن مندة، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم يسقطوا عدالتهم إلا ببرهان ثابت وجرح مفسر يتابعه غيره عليه، قال الحافظ رحمه الله في (لسان الميزان 1/ 201): " قلت كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى النبيين والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم ".
موقف أبي زرعة من الصحيحين
واستدل أيضاً بعبارة لأبي زرعة ينتقد فيها لصاحبي الصحيح لإخراجهم لبعض الرواة كأحمد بن عيسى المصري، والتي نقلها عنه الخطيب في تاريخه، و الذهبي في ميزان الاعتدال، وأنه اعتبرهم متظاهرين بالحديث، أرادوا التصدر وصرف وجوه الناس إليهم.
فقد نقل الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد 4/ 227) عن سعيد بن عمرو، قال شهدت أبا زرعة يعنى الرازي ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج، ثم الصائغ على مثاله - يعني البخاري فقال لي أبو زرعة: " هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شيئا يتشوفون به، ألفوا كتاباً لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها "، وأتاه ذات يوم وأنا شاهد رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة، ما أبعد هذا من الصحيح، يدخل في كتابه أسباط بن نصر، ثم رأى في كتابه قطن بن نسير، فقال لي: وهذا أطم من الأول ".
والجواب أن يقال: إن هذا الجرح من أبي زرعة مفسر، فسره هو بنفسه، وبين سبب إيراده، وهو إخراجه لبعض هؤلاء الرواة المنتقدين الذين ذكر بعضهم، وقد ذكر مسلم تبرير ذلك والرد عليه بعد هذا الكلام، ولهذا لم ينقله المحرف لأنه لا يتفق مع هواه وما أراد.
وهو أحد الوجوه التي ذكرها الإمام ابن الصلاح في كتابه " صيانة صحيح مسلم (1/ 96)، ونقلها عنه النووي في شرحه (1/ 24) والتي وجَّه فيها إخراج الإمام مسلم لبعض الضعاف أو المتوسطين.
وهو أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطول بإضافة النازل إليه، مكتفياً بمعرفه أهل الشأن في ذلك، وهذا العذر قد روي عن مسلم تنصيصاً، حيث قال عندما ذكر له إنكار أبي زرعة: " إنما أدخلت من حديث أسباط و قطن و أحمد، ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات ".
ولا أدل من أن الصواب كان مع الإمام مسلم أن الخطيب نفسه، الذي نقل هذه العبارة: " وثَّق أحمد بن عيسى، ولم يلتفت إلى قول من تكلم فيه، فكان مع الإمام مسلم، فلماذا لم يورد الكاتب كلام الخطيب الذي يقول فيه بعد ذلك: " قلت: " وما رأيت لمن تكلم في أحمد بن عيسى حجة توجب ترك الاحتجاج بحديثه "، وعبارة الذهبي في الميزان بعد إيراده لكلام أبي زرعة نفسه: " قلت احتج به أرباب الصحاح، ولم أر له حديثا منكرا فأورده ".
¥