تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وليس الطريف أن نلمس هذه المشكلة ونراها رأى العين، وإنما الطريف (أو إن شئت فقل الأهم) أن نواجه هذه المشكلة بشجاعة وقوة .. أعني شجاعة الفكر بيقظته ودقته واطراده بحيث لا يقيس مع الفارق، ولا يستدل في غير محل النزاع ولا يحيل بديهياً، ولا يتسامح بالمستحيلات .. هذه اشتراطات تقتضيها طبيعة الفكر الفطرية من أول تمييزه، ولهذا قال ديكارت أن العقل نور فطري.

وقبل أن ندرسها بشجاعة فكرية يجب أن نفهمها بأقسامها وغاياتها، فالذي نلمسه من واقعها المشهود ومن خلال فلسفتها في المذاهب الفكرية المعاصرة أن هناك حريتين: حرية أكثر إطلاقاً، وحرية مقيدة .. وكلا القسمين فيهما الحرية القولية، والحرية الفعلية .. فأما الحرية المطلقة فهي الإباحية التي تدعو الإنسان إلى أن يتمتع بأقواله وأعماله وأن ينعم باختياره، لا يراعى ضوابط الدين، ولا حجز المبدأ ولا توارث الأعراف، (غير أن لا يؤذي غيره) وهذه إحدى منازع الفلسفة الوجودية التي دخلتها أوروبا من أوسع أبوابها، حتى أصبحت العلاقات الجنسية نزوا كنزو البهائم بلا قيود ولا شروط .. شيوعية جنسية لم يحلم بها (مزدك).

وبلغت حرية الرأي المطلقة أن تعددت الأحزاب والطوائف والفلسفات في البلد الواحد (كل أمة تلعن أختها) فعمّت الفوضى واختل النظام.

أما الحرية المقيدة فهي الخروج على مبدأ أو مذهب أو نظام معين قائم للتقيد بغيره، وبلوت من نصوص ديني إلا حرية في العمل بغير ما رسمته الشريعة .. شاهد ذلك حدود الله: من قتل وقطع، وصلب، ورجم، وجلد، وحبس، وتغريب .. لا أستثني إلا حرية أهل الكتاب في أديانهم شريطة أن تكون الغلبة للإسلام، وأن يدفعوا الجزية، وأن يلتزموا الصغار وألا يبثوا دعاية لدينهم، وألاّ يبدّلوا دينهم بغير الإسلام.

أما حرية القول، فأشهد شهادة ألقى الله بها غداً، ولا أحول عنها أبداً أن الإسلام لم يستهن بهذا المبدأ، ولم يتورط فيه.

أما أنه لم يستهن به، فلأن الله قال (وجادلهم بالتي هي أحسن) .. ولا جدال إذا لم تكن للكلمة حريتها.

وقال سبحانه {وأمرهم شورى بينهم}. ولا يكون الأمر شورى إلا في أجواء الحرية، وقال سبحانه {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} .. فطلب البرهان هو الحرية بكل جذورها.

وأما أنه لم يتورط فيها فلأنه لم يرض بعوار الكلام لا له ولا عليه ..

فمن سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم يُقتل ( ü)، والمرتد يُقتل، ومن تنقص الدين أو اتهمه فأدنى حدّ له التعزير .. كذلك المسلمون ليست لهم حرية بأن يسبوا آلهة المشركين .. قال تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} .. وليس لهم أن يفحشوا في جدلهم {وجادلهم بالتي هي أحسن}.

وحقي على من يطلع على كلمتي هذه ممن يحمل علي شنآناً، أو لا يرضيه مذهبي في الحياة، أو يرميني بضيق في الأفق، أو بتعفن في التفكير، أو برثاثه في الهيكل والمظهر أن يطوي هذه الأمور في جناحه ويحتكم معي إلى حجة العقل وقيوده التي حببها فطرة وخلقة، لأنه الحظ المشاع فينا (بني غبراء) ولأنه أعدل قسم الله .. فإني في هذه العجالة طارح أمراً يفرضه العقل والواقع، ولا أخال أن مفكراً مهماً كان مذهبه يعارضني فيه، فأقول:

إن أي مجتمع يدين بفكرة ويؤمن بها يرى ـ ولابد ـ أن غيرا الباطل، إذ الحق في جهة واحدة، والمصيب واحد، فلا نلومه إذا ضبط حرية الرأي في الأفكار المعارضة فقد يكون الرأي المعارض متطرفاً يقلب رأساً على عقب، ويراد السماح به ليتغلغل في عقول العامة والخاصة بشتى وسائل الإعلام، وربما كان مبعثه صيحة عاطفية متسرعة، وربما فقد (بالبناء للمجهول) فيها حسن النية لاكتساب شهرة شعبية زائفة.

أفيسوغ لأصحاب مبدأ يرون أنه الحق الذي لا حق سواه، أن يتركوه تعصف به وجهات النظر المختلفة؟ .. وأن من يطلب هذا يشح به إذا حصل عليه.

أما أن يراد إبداء الرأي المعرض والمحاجة فيه لا بصورة إعلامية تقسم المجتمع إلى أحزاب وطوائف يلعن بعضها بعضاً ـ ففرض ابداؤه لمن بيديهم مقاليد الأمور إبداء لا تعلم به العامة والسفهاء .. وفرض شرعاً وعقلاً الإصغاء إلى الرأي وحجته وانتداب العلماء والمفكرين ليناقشوا الموضوع ويدرسوه ويستفتوا فيه ذوي الاختصاص وأن تقنع جهة المعارضة بحجة منظمة لا عناد فيها ولا تسفسط ولا مغالطة، فإن التبس الحق بالباطل اجتهد ـ بالبناء للمجهول ـ غاية الاجتهاد باستفتاء ذوي الرأي والميل مع الحجة اللائحة، وإذا لم تلح الحجة التمست بجانب الكثرة، أو بجانب من يفضل بعلمه وورعه وكثرة صوابه.

وإن عدم الإصغاء لمن يبدي معارضة أو يدلي بحجة هو المذموم، ولقد رأينا عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ ينتدب للخوارج من يحاجهم ويقنعهم ثم لا يمسهم بأذى لمجرد أنهم أبدوا وجهة نظرهم، أما عدم الأخذ بوجهة النظر المطروحة فليس بشرط في حرية الرأي، لأنه سمح به، وليس من اللازم الأخذ به، إذ لا يعمل إلا بما قامت حجته أو انعقد عليه رأي المؤمنين من العقلاء والعلماء والمختصين.

إن حرية الرأي لا تكون فوضى تبث في الناس عامتهم وخاصتهم لتكون فتنة. حرية الرأي أن تسمع الكلمة بتلطف وستر ونية صالحة، ودعمها بالحجة والتثبت مع الاطمئنان مهما كانت خطورتها، ثم تطرح للدراسة والاجتهاد.

ونعرف أن مبعث حرية الرأي الإصلاح، فلنعرف بجانب هذا ظاهرة أن الناس ليسوا كلهم على مستوى واحد من التعقل والفطنة والحصافة والتقوى وحب الحق والاهتداء إليه.

إن مقتضى الأمانة والدين والعقل ـ ومن مبعث الحرية ـ أن يخلص الناس لولائهم، ومعنى هذا الإخلاص المسارة بالنصيحة، والتخول بالموعظة والصرامة في الحق، وعدم اللجاجة كما قال شوقي.

لك نصحي ولا عليك جدال

آفة النصح أن يكون جدالاً

أما الحرية في العمل، فالفاضل فيها أن الحرية لذاتها ليست حقاً ولا باطلاً ولا خيراً ولا شراً .. وإنما هي قالب لذينك، فما كان شراً فالتحرر منه خير، وما كان خيراً فالتحرر منه شر .. جعلنا الله هداة مهتدين.

ü لمزيد التوضيح لهذا الموضوع يقرأ (الصارم المسلول على شاتم الرسول) لشيخ الإسلام ابن تيمية

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير