ـ قال ابن رجب: " قوله: (و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام، و هي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته و ابتغاء مرضاته، كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثعب دماً لونه لون الدم و ريحه ريح المسك. و بهذا استدل من كره السواك للصائم أو لم يستحبه من العلماء، وأول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح Kو روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت، و في المسألة خلاف مشهور بين العلماء ............ ..........................
و في طيب ريح خلوف الصائم عند الله ـ عز و جل ـ معنيان:
1ـ المعنى الأول: أن الصيام لما كان سراً بين العبد و بين ربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام و يعرفون بصيامهم بين الناس جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا. ...................
حُكي عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد ـ رحمه الله ـ: أنه كان يواظب على الصيام، فمر يوماً بثمار و بين يديه رطب حسن فاشتهت نفسه فرد شهوتها، فقالت نفسه: فعلت بي كل بلية من سهر الليالي و ظمأ الهواجر فأعطني هذه الشهوة و استعملني في الطاعة كيف شئت، فاشترى سهل من الرطب و خبز الحواري و قليل شوى و دخل موضعاً ليأكل فإذا رجلان يختصمان، فقال أحدهما: إني محق وأنت مبطل أتريد أن أحلف لك أني محق وأن الأمر على ما زعمت، قال: بلى، فحلف فقال: و حق الصائمين إني محق في دعواي، فقال سهل: هذا مبعوث الحق تعالى إلى هذا السوط بي ثم أخذ بلحيته و قال: يا سهل بلغ من شرفك و شرف صومك حتى يحلف العباد بصومك فيقول: و حق الصائمين ثم تفطر أنت على قليل رطب ...........................
و قد تفوح رائحة الصيام في الدنيا و تستنشق قبل الآخرة، و هو نوعان:
أ ـ أحدهما: ما يدرك بالحواس الظاهرة.
كان عبد الله بن غالب من العباد المجتهدين في الصلاة و الصيام، فلما دفن كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك، فرؤي في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره؟ فقال: تلك رائحة التلاوة و الظمأ.
ب ـ و النوع الثاني: ما تستنشقه الأرواح و القلوب فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة و المحبة في قلوب المؤمنين. و حديث الحارث الأشعري عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: (أن زكريا ـ عليه السلام ـ قال لبني إسرائيل: آمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم تعجبه ريحه، و إن ريح الصيام أطيب عند الله من ريح المسك) خرجه الترمذي و غيره.
لما كان أمر المخلصين بصيامهم لمولاهم سراً بينه و بينهم، أظهر الله سرهم لعباده فصار علانية، فصار هذا التجلي و الإظهار جزاء لذلك الصون و الإسرار ...............................
2 ـ و المعنى الثاني: أن من عبد الله و أطاعه و طلب رضاه في الدنيا بعمل فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله بل هي محبوبة له و طيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته و اتباع مرضاته، فإخباره بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطييب لقلوبهم لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا .................................................. .....................
كل شيء ناقص في عرف الناس في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعته و رضاه فهو الكامل في الحقيقة. خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك
. عري المحرمين لزيارة بيته أجمل من لباس الحلل.
نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح.
انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر.
ذل الخائفين من سطوته هو العز.
تهتك المحبين في محبته أحسن من الستر.
بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة.
جوع الصائمين لأجله هو الشبع.
عطشهم في طلب مرضاته هو الري.
نصب المجتهدين في خدمته هو الراحة.
ذل الفتى في الحب مكرمة و خضوعه لحبيبه شرف
هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب.
سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح،
وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، و للمذنبين بالعفو، و المستوجبين النار بالعتق.
¥