وقال: " قال بعض السلف: صم الدنيا و اجعل فطرك الموت، الدنيا كلها شهر صيام، المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات، فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم و استهلوا عيد فطرهم.
و قد صمت عن لذات دهري كلها و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، و من تعجل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة و فواته، و شاهد ذلك قوله تعالى: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها)، و قول النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) و (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة).
أنت في دار شتات فتأهب لشتاتك
و اجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك
و ليكن فطرك عند اللـ ـه في يوم وفاتك "
ـ قال ابن رجب: " كان بعض الصالحين كثير التهجد و الصيام فصلى ليلة في المسجد و دعا فغلبته عيناه، فرأى في منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة بياض الثلج فوق كل رغيف در كأمثال الرمان فقالوا: كل، فقال: إني أريد الصوم. قالوا له: يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل، قال: فأكلت و جعلت آخذ ذلك الدر لاحتمله فقالوا له: دعه نغرسه لك شجراً يُنبت لك خيراً من هذا، قال: أين؟ قالوا: في دار لا تخرب، و ثمر لا يتغير، و ملك لا ينقطع، و ثياب لا تبلى، فيها رضوى و عيناً، وقرة أعين أزواج رضيات مرضيات راضيات لا يغرن و لا يغرن فعليك بالانكماش فيما أنت، فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار، فما مكث بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي، فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه الذين حدثهم برؤياه و هو يقول: لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك، و قد حَمل فقال له: ما حَمل؟ قال: لا تسأل، لا يقدر أحد على صفته،لم ير مثل الكريم إذا حل به مطيع.
يا قوم ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن، ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان، ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان.
من يرد ملك الجنان فليدع عنه التواني
و ليقم في ظلمة الليـ ـل إلى نور القرآن
و ليصل صوماً بصوم إن هذا العيش فاني
إنما العيش جوار اللـ ـه في دار الأمان "
ـ قال ابن رجب: " رؤي بشر في المنام فسئل عن حاله؟ فقال: علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه.
و قيل لبعضهم: أين نطلبك في الآخرة؟ قال: في زمرة الناظرين إلى الله، قيل له: كيف علمت ذلك؟ قال: بغض طرفي له عن كل محرم، و باجتنابي فيه كل منكر و مأثم، و قد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه "
لا صام من صام الأبد:
ـ عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: بلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أني أسرد الصوم وأصلي الليل، فإما أرسل إلي وإما لقيته فقال: " ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر وتصلي ولا تنام؟ فصم وأفطر وقم ونم، فإن لعينك عليك حظا وإن لنفسك وأهلك عليك حظا. قال: إني لأقوى لذلك. قال: فصم صيام داود ـ عليه السلام ـ قال: وكيف؟ قال: كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى. قال: من لي بهذه يا نبي الله؟ قال عطاء: لا أدري كيف ذكر صيام الأبد. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا صام من صام الأبد مرتين "
ـ عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: من صام الأبد فلا صام ولا أفطر "
قال ابن رجب: " قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في صيام الدهر: (لا صام و لا أفطر) يعني أنه لا يجد مشقة الصيام و لا فقد الطعام و الشراب و الشهوة، لأنه صار الصيام له عادة مألوفة فربما تضرر بتركه، فإذا صام تارة و أفطر أخرى حصل له بالصيام مقصوده بترك هذه الشهوات و في نفسه داعية إليها، و ذلك أفضل من أن يتركها و نفسه لا تتوق إليها "
قال ابن رجب: " قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في حق داود ـ عليه السلام ـ: (كان يصوم يوماً و يفطر يوماً، و لا يفر إذا لاقى) يشير إلى أنه كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه و مجاهدته في سبيل الله. و لهذا روي عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال لأصحابه يوم الفتح و كان في رمضان: (إن هذا يوم قتال فافطروا)، و كان عمر إذا بعث سرية قال لهم: لا تصوموا فإن التقوي على الجهاد أفضل من الصوم.
¥