للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَجَسَدِه، وَالْخِطَابُ لِزَكَرِيَّا، لِرُوحِه وَبَدَنِه، وَالرُّوحُ تُوصَفُ بِالْوَفَاة وَالْقَبْضِ وَالْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدَثِ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (١) - فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْأَمْرِ الطَّلَبَ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ، وَالْمَصْدَرُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِضَافَتِهَا إليه بقوله: {مِنْ رُوحِي} (٢) - فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَى اللَّهِ تعالى مِنَ نَوْعَانِ:

صِفَاتٌ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَة وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَهَذِهِ إِضَافَة صِفَة إِلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا، فَعِلْمُه وَكَلَامُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه صِفَاتٌ لَهُ، وَكَذَا وَجْهُه وَيَدُه سُبْحَانَهُ.

وَالثَّانِي: إِضَافَة أَعْيَانٍ مُنْفَصِلَة عَنْهُ، كَالْبَيْتِ وَالنَّاقَة وَالْعَبْدِ وَالرَّسُولِ وَالرُّوحِ، فَهَذِهِ إِضَافَة مَخْلُوقٍ إِلَى خَالِقِه، لَكِنَّهَا إِضَافَة تَقْتَضِي تَخْصِيصًا وَتَشْرِيفًا، يَتَمَيَّزُ بِهَا الْمُضَافُ عَنْ غَيْرِهِ.

وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ: هَلْ هِيَ مَخْلُوقَة قَبْلَ الْجَسَدِ أَمْ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمِيثَاقِ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِكَ.

وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ: مَا هِيَ؟ قِيلَ: هِيَ جِسْمٌ، وَقِيلَ: عَرَضٌ، وَقِيلَ: لَا نَدْرِي مَا الرُّوحُ، أَجَوْهَرٌ أَمْ عَرَضٌ؟ وَقِيلَ: لَيْسَ الرُّوحُ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنَ اعْتِدَالِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، وَقِيلَ: هِيَ الدَّمُ الصَّافِي الْخَالِصُ مِنَ الْكَدَرِة وَالْعُفُونَاتِ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَرَارَة الْغَرِيزِيَّة، وَهِيَ الْحَيَاة، وَقِيلَ: هُوَ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُنْبَعثٌّ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، عَلَى جِهَة الْإِعْمَالِ لَهُ وَالتَّدْبِيرِ، وَهِيَ عَلَى مَا وُصِفَتْ مِنْ الِانْبِسَاطِ فِي الْعَالَمِ غَيْرُ مُنْقَسِمَة الذَّاتِ وَالْبِنْيَة، وَأَنَّهَا في كُلِّ حَيَوَانِ


(١) سورة الْإِسْرَاءِ آية ٨٥
(٢) سورة الْحِجْرِ آية ٢٩

<<  <   >  >>