ـ[ابوفيصل]ــــــــ[21 - 09 - 03, 04:12 م]ـ
بناء المساكن بين الحاجة والترف
د. عبدالسلام بن برجس العبدالكريم* عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء بالرياض
آية كريمة في سورة الشعراء، استوقفتني كثيراً، فيها عبرة، ونقد، وتوجيه: انها افتتاح الانتقادات التي وجهها هود - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - الى قومه «عاد» بعد ان دعاهم الى الله، وأمرهم بطاعته:
«أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. واذا بطشتم بطشتم جبارين».
انه - عليه السلام - ينتقد عبثهم بالبنيان، والعبث بالبنيان: تشييده لمجرد التباهي بالقدرة عليه، قدرة جسمية في بنائه، وعقلية في تصميمه وهندسته، ومالية في الانفاق عليه، فهو بناء لغير نفع.
وفي هذا الانتقاد توجيه الى ان الجهد والبراعة وإنفاق المال انما يكون في البناء الضروري المثمر خير الدين، وسداد الدنيا.
هذه الآية وجهت الى قوم «عاد» فما نصيبنا منها امة محمد صلى الله عليه وسلم؟ لبيان ذلك انقل أثرين من آثار سلفنا الصالح:
الاول: عن مجاهد بن جبر - المتوفى وهو ساجد بمكة المكرمة سنة 104ه - حيث قال: «ليس احد أشبه فِعالاً بعاد من امة محمد صلى الله عليه وسلم، قال «أتبنون بكل ريع آية تعبثون» فقد والله فعلوا. اخرجه ابن ابي حاتم في «تفسيره» «9/ 2794».
الثاني: ما أخرجه ابن ابي حاتم - ايضاً - في تفسيره عن عون بن عبدالله بن عتبة، ان ابا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما احدث المسلمون في الغوطة من البنيان، ونصب الشجر، قام في مسجدهم، فنادى: يا اهل دمشق! فاجتمعوا اليه. فحمد الله، واثنى عليه، ثم قال:
ألا تستحيون الا تستحيون، تجمعون مالا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وتؤملون مالا تدركون.
قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح املهم غروراً، وأصبح جمعهم بوراً، واصبحت مساكنهم قبوراً.
الا إن عاداًَ ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً وركاباً من يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟ ففي هذين الاثرين غنى عن التوسع في التعليق عما نعايشه هذه الايام من البناء للتباهي لا للسكن، ابتداء من شراء الارض، فأجره المهندس، فالنار المحرقة للمال «البناء» فالاثاث المكمل «للديكور».
مهلاً فانا لا اريد إنكار البناء، فهذا لا يقوله احد، انما اريد ان امنع بين يديك ما جاء به دين الاسلام وملة محمد عليه الصلاة والسلام في قضية البناء:
أجمع علماء المسلمين على انه يلزم كل امرىء تحصيل مسكن له، ولمن تلزمه نفقته فمن حصل مسكناً له ولأهله، ببناء بيت، او اكترائه، فقد سلم من الاثم.
كما رغّب الاسلام في سعة البيوت بكبر مساحتها، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ان من سعادة المرء المسكن الواسع وان المسكن الضيق من الشقاء.
وللاسلام موقف واضح من المساكن التي شيدت على اساس التفاخر والتباهي، أوجز ذلك الموقف في الفقرات التالية:
1 - ليس لمن بنى بيتاً من غير حاجة، اوفوق ما يحتاجه، اجر، لما في «الصحيحين» عن خباب بن الارت رضي الله عنه انه قال وهو يبني حائطاً له «إن المرء المسلم يؤجر في نفقته كلها، الا في شيء يجعله في التراب» ورواه الترمذي مرفوعاً الى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله.
ومعنى «في التراب» اي البنيان الذي لم يقصد به وجه الله، وقد زاد على ما يحتاجه لنفسه وعياله على الوجه اللائق.
2 - البناء بهذه الصفة من علامات قرب الساعة، وزوال الدنيا. ودليل ذلك ما رواه البخاري عن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة .. وحتى يتطاول الناس في البنيان».
وروى البخاري ايضاً في الادب المفرد عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتاً يوشُّونها وشي المراحيل» ومعنى «يوشونها» ينقشونها ويصبغونها بأنواع الالوان المختلفة كما تنقش الثياب والفرش ومعنى: «المراحيل» الثياب المنقوشة بنقوش تشبه رحال الابل.
3 - اخبر الصادق المصدوق عن حال الذين يبنون للمباهاة بما يردع غرورهم وتعاظمهم، ففي حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم اخبر عن علامات الساعة فقال: «وان ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان».قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى _ في جامع العلوم والحكم «1/ 137» والمراد: ان اسافل الناس يصيرون رؤساءهم، وتكثر اموالهم، حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته واتقانه.