تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[ماذا يعني سكوت العلماء عند الفتن؟!]

ـ[أبو حميد الفلاسي]ــــــــ[29 - 09 - 03, 01:08 ص]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

التكليف بالواجبات الشرعيّة العلميّة والعمليّة مشروط بالممكن من العلم والقدرة؛ لهذا يتعيَّن حَملُ كلام العلماء الربانيّين أو سكوتهم على أفضل الوجوه؛ لا سيَّما توقفهم وسكوتهم في حال التمكّن والاشتباه؛ فممَّا تقرر في الشريعة: (جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة والتمكّن)، و (ما كلُّ حديث تحدَّث به العامّة)، و (من المسائل مسائل جوابها السكوت).

فالعالم ينظر إلى المآلات والعواقب، فيمسك عن الكلام -أحياناً- خشية الفتنة؛ كما قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه-: ((ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (1)؛ ويُراعي -أيضاً- ضابط المصلحة، ومراعاة الأولويات، فهو في كلامه وسكوته يمر بمراحل ثلاث:

الأولى: هل الأولى السكوت، أو الأولى الكلام؟

الثانية: ثم هل الكلام على العموم، أم الكلام على الخصوص والتعيين؟

الثالثة: عدم إهمال جانب المصالح، والنَّظر إلى المآلات.

وقد أوضح الشَّاطبي -رحمه الله- هذا الأمر -عند حديثه- على أقسام العلم: منه ما هو مطلوب النَّشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت، أو شخص؛ فقال:

((وضابطه أنَّك تعرض مسألتك على الشَّريعة، فإن صحت في ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنَّسبة إلى حال الزَّمان وأهله، فإنْ لم يُؤَدِّ ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول (2)، فإنْ قَبِلَتْها؛ فلك أن تتكلم فيها: إمّا على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإمّا على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغُ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعيّة والعقليّة)) (3) ا. هـ.

والمقصود: أن العالم الرباني تتعدد أجوبته بحسب نوع المسألة أو النَّازلة، وبحسب حال السائل، فتارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة ثالثة يسكت ويتوقف، وفي الصورة الأخيرة يقال: إن سكوت العلماء الربانيين الذين لهم لسان صدق في الأمَّة، وموافقة للسُّنّة المحضة في مواضع الفتن والاشتباه يعدُّ قرينة على أنَّه لا يصلح الجواب إلا بالسكوت، فسكوتهم جواب لبيان الحال وما آلت إليه الأحوال؛ فمن المسائل مسائل جوابها السكوت، والمقصود هو تحصيل الخير ودفع الشر، والخوض في حال الفتن واشتباه الأمور لا فائدة منه -في الغالب-؛ بل هو يزيد الشر وينقص الخير، ويضيّع رأس المال في دائرة السعي إلى الأرباح، فما دام أنه ناقض مقصود الشريعة، فتركه هو المقصود.

وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا الأمر بياناً شافياً؛ فقال: ((فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة؛ كالأمر بالصلاح الخالص، أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان، فأمّا إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكفّ والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء، حتى علا الإسلام وظهر.

فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التّمكن؛ كما أخر الله -سبحانه- إنزال الآيات، وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها)) (4).

فظهر - من هذا- أن من أوجه جواب العالم: السُّكوت، والعالم لا يسكت إلا في حالتين:

الحالة الأولى: إذا كان السكوت هو الأصلح؛ فيقال: -آنذاك-: ((من المسائل مسائل جوابها السكوت)).

الحالة الثانيّة: أن يسكت العالم لعدم تمكنه من العلم بالمسألة أو النازلة؛ لا سيَّما إذا كانت من المباحث الجزئيّة الدّقيقة، أو أحياناً لعدم قدرته على الحق المشروع، وهو فيه معذور؛ وآنذاك يقال: ((لا ينسب إلى ساكت جواب)).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير