هذا، وفي الدعاء عند زيارة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قبره أُثِيرَت مسألة الجهة التي يتجه إليها الداعي، هل هي قِبْلة الصلاة أو هي القبر الشريف؟ روى القاضي عياض في كتابه "الشفا في التعرُّف بحقوق المصطفى" ما جاء عن الإمام مالك بن أنس لمَّا ناظره أبو جعفر المنصور في المسجد النبوي، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدَّب قومًا فقال (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي وَلا تَجْهَرُوا لَه بِالْقَوْلْ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأًنْتُمْ لا تَشْعُرُون) (الحجرات: 2) ومدح قومًا فقال (إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّون أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات: 3).
وذم قومًا فقال (إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون) (الحجرات: 4) وإنَّ حرمته ميتًا كحُرْمَته حيًّا. فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القِبْلَة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولمَ تصرفْ وجْهَكَ عنه وهو وسيلتُك ووسيلة أبيك آدم ـ عليه السلام ـ إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقْبِلْه واستَشْفِعْ به فيشفعه الله، قال الله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء: 64). وابن تيمية يُكَذِّب هذه الرواية.
وردَّ الزرقاني في شرحه للمواهب اللَّدنية للقسطلاني على ابن تيمية بأنها مروية عن ثقات ليس فيهم وضَّاع ولا كذَّاب، ثم يرد عليه ما ادَّعاه من كراهية مالك لاستقبال قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الدعاء بأن كُتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر واستقباله، مع مسِّ القبر بيده.
ويقول: وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور، ونُقل عن أبي حنيفه.
قال ابن الهُمام: وما نقل عنه أنه يستقبل القِبْلَة مردود بما روي عن ابن عمر: من السُّنة أن يَسْتَقْبِل القبر المكرَّم، ويجعل ظهره للقِبْلَة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول الكرماني: مذهبه خلافه ليس بشيء؛ لأنه حي، ومن يأتِ الحي إنما يتوجَّه إليه.
وصرَّح النووي في كتابه " الأذكار " بذلك. وقد أشير إلى شيء من ذلك في موضع التوسُّل من هذا البيان.
هذا، ومع استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين يجب التنبُّه إلى ما جاء من النهي عن اتخاذها مساجد وعيدًا، فقد وردت في ذلك نصوص كثيرة، منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقوله " اللهمَّ لا تجعل قبري وَثَنًا يُعْبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد"، وقوله " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تتخذوا قبري عِيدًا، وصلُّوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلُغني حيث كنتم".
واتخاذ القبور مساجد يعني التوجُّه بالعبادة إليها وإلى من فيها، وذلك شرك، فالعبادة لله وحده، وهو معنى جعْل القبر وَثَنًا يُعْبَد. والمراد بالمسجد هنا موضع العبادة بالصلاة وغيرها، واتخاذها عيدًا يُقصد به التقرُّب إلى الله عندها في المواسم وفي مواعيد معيَّنة شأن الأعياد في ذلك،
وقال جماعة: إن هذا الحديث ينهَى عن التقصير في قبره وهجره وعدم زيارته إلا في مواسم كالأعياد، فهو يحثُّ على مداومة زيارتها. هذه وجهات نظر مختلفة في فهم الحديث.
جاء في " خلاصة الوفا للسمْهودي ": أن هذا الحديث قيل عندما رأى راوية الحسن بن الحسن أو علي بن الحسين ـ رجلًا يحرص كل يوم على زيارة قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويبالغ في الدنو منه، وقد كره مالك ذلك ممن لم يقدُم من سفر، وجاء فيه أيضًا: قال الحافظ المنذري في حديث " لا تجعلوا قبري عيدًا " يُحتمل أن يكون حثًّا على كثرة الزيارة وألا يُهمل حتى لا يُزار إلا في بعض الأوقات كالعيد ويؤيده قوله " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا " أي لا تتركوا الصلاة فيها.
¥