[(مواقع الكلام)]
ـ[أبوحاتم]ــــــــ[03 - 10 - 03, 10:49 م]ـ
الحمد لله
اخواني رواد هذا المنتدى المبارك ...
أقدم لكم هذا النص الأدبي الرائع لأحد علمائنا الأفذاذ هو: علي بن عبد العزيز الجرجاني، وذلك في كتابه الموسوم بـ (الوساطة بين المتنبي وخصومه) أقتطف لكم من رياض هذا البستان زهرة فواحة وَسَمها صاحبها: بمواقع الكلام.
وإني لأجد في نفسي من جمود القريحة، وكلال الذهن، ما يجعل قلمي حائرا في وصف هذا البديع من الكلمات.
يقول علي بن عبد العزيز الجرجاني – رحمه الله -: "مواقع الكلام"
وهذا أمر تُسْتخبر به النفوس المُهَذَّبة، وتَسْتَشْهِدُ عليه الأذهان المثقفة؛ وإنما الكلام أصواتٌ محلُّها من الأسماع محلُّ النواظر من الأبصار.
وأنت قد ترى الصُّورة تستكمِلُ شرائط الحُسْن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنْفُس كلَّ مذهب، وتقف من التَّمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والْتئامِ الخِلْقة، وتَنَاصُفِ الأجزاء، وتقابل الأقسام؛ وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعْلَقُ بالنَّفس، وأسرع ممازجة للقلب؛ ثم لا تعلم – وإن قاسيت واعتبرت ونظرت وفكرت- لهذه المزية سبباً، ولما خُصَّتْ به مُقْتَضِياً.
ولو قيل لك: كيف صارتْ هذه الصورةُ، وهي مقصورةٌ عن الأولى في الإحكام والصَّنْعة، وفي الترتيب والصِّيغة، وفيما يجمع أوصاف الكمال، وينتظمُ أسبابَ الاختيار أحْلَى وأرْشق وأحظى وأوقع؟ لأقمت السائل مقام المتعنّت المتجانِف، ورددته ردَّ المُسْتبهم الجاهل! ولكان أقصى ما في وسعك، وغايةُ ما عِنْدك أن تقول: موقعه في القلب ألْطف، وهو بالطبع ألْيق؛ ولم تَعْدَم مع هذه الحال مُعارضا يقول لك: فما عبت من هذه الأُخرى؟ وأي وَجْهٍ عَدَل بك عنها؟ ألمْ يجتمع لها كيت وكيت!! وتَتكامل فيها ذيه وذيه!! وهل للطاعن إليها طريق! وهل فيها لغامز مغمز يحاجُّك بظاهرٍ تُحِسُّه النَّواظر؛ وأنتَ تحيله على باطن تُحصِّله الضمائر!
كذلك الكلام: منثوره ومنظومهُ، ومُجْمَلُه ومُفَصَّلهُ؛ تجد منه المُحْكَم الوثيق والجَزْل القَويّ، والمُصَنَّع المُحْكَم، والمنمَّق الموشَّح؛ قد هُذِّب كلَّ التَّهذيب، وثُقِّفَ غاية التثقيف، وجَهِد في الفِكر، وأُتْعب لأجله الخاطر، حتى احْتمى ببراءته عن المعائِب، واحْتَجَر بصِحَّتِه عن المطاعن، ثم تجد لفؤادِك عنه نَبْوة، وترى بينه وبين ضميرك فَجْوَة؛ فإن خَلُص إليهما فبأن يُسهِّل بعضُ الوسائل أذنه، ويمهِّد عندهما حاله؛ فأما بنَفْسه وجوهرِه، وبمكانه وموقعهِ، فلا.
هذا قولي فيما صفا وخَلُص، وهُذِّب ونُقِّح؛ فلم يوجد في معناه خَلَل، ولا في لفظه دَخل؛ فأما المختل المَعِيب، والفاسد المضطرب، فله وجهان:
أحدُهما: ظاهر يُشْترك في معرفته؛ ويقل التفاضُل في علمه؛ وهو ما كان اختلافه وفسادُه من باب اللَّحن والخطأ من ناحية الإعراب واللغة.
وأظهر من هذا ما عَرَض له ذلك من قِبَلِ الوزن والذَّوْق، فإن العامي قد يميِّز بذوقه الأعاريض والأضْرُب، ويَفْصِل بطبعه بين الأجْناس والأبْحُر، ويظهر له الانكسار البَيِّن، والزِّحاف السائغ.
والآخر – أي الثاني- غامض يُوصَلُ إلى بعضه بالرِّواية، ويُوقَفُ على بعضٍ بالدِّراية؛ ويحتاج في كثير منه إلى دِقَّة الفِطْنة، وصفاء القريحة، ولُطْفِ الفِكْر، وبُعْدِ الغَوْص. ومِلاَكُ ذلك كلِّه، وتَمامُه الجامِعُ له والزّمامُ عليه:
صِحَّة الطَّبْع، وإدْمانُ الرياضة؛ فإنهما أمران ما اجْتَمعاَ في شخص فَقَصَّرا في إيصال صاحبهما عن غايته، ورضيا له بدُونِ نهايته.
وأقلُّ الناس حَظَّا في هذه الصناعة مَن اقْتَصَرَ في اخْتِياره ونَفْيهِ، وفي اسْتِجَادته واسْتِسْقاطهِ على سلامة الوزن، وإِقامة الإعراب، وأداء اللغة.
ثم كان هَمُّه وبُغْيَتُه أن يجد لفظاً مُرَوَّقا، وكلاما مُزَوَّقا؛ قد حُشِي تجْنيساً وترصيعا، وشُحن مطابَقةً وبديعاً، أو معنى غامضاً قد تَعَمَّقَ فيه مُسْتَخْرِجُه، وتَغَلْغَلَ إليه مُسْتَنْبطه، ثم لا يَعْبَأ باختلاف الترتيب، واضطراب النَّظْم، وسوءِ التأليف، وهَلْهَلَةِ النَّسْج، ولا يقابِلُ بَيْنَ الألفاظ ومعانيها، ولا يَسْبُرُ ما بينهما من نسب، ولا يَمْتَحِنُ ما يجتمعان فيه من سبب، ولا يرى اللفظ إلاَّ ما أدَّى إليه المعنى، ولا الكلام إلا ما صوَّر له الغرض، ولا الحُسْنَ إلا ما أفاده البديع، ولا الرَّوْنق إلا ما كساه التَّصْنيع، وقد حملني حُبُّ الإفصاح عن هذا المعْنى على تكرير القولِ فيه، وإعادةِ الذِّكْرِ له؛ ولو احتمل مقدارَ هذه الرسالة استقصاؤُه، واتسع حَجْمُها للاستيفاء له لاسْتَرْسَلْتُ فيه، ولأشْرَفْتُ بك على مُعْظَمه. انتهى.
دمتم بخير ..