هذه أشهر أسانيد أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان الواردة في مشاهير كتب السنّة، ويبقى سواها أحاديث أخرى سبقت الإشارة إليها مقدمة هذا الجواب، وبالإطلاع عليها لم أجد فيها ما ينفع للتقوَّي فضْلاً عن أن يوجد إسناد مقبول أو خفيف الضعف، فهي بين إسناد منكر تفرد به ضعيف، وإسناد شديد الضعف فيه متهم، وحديث موضوع مختلق، لذلك فالراجح عندي أنه لم يصح في فضل ليلة النصف من شعبان حديث، ولم يُصب – عندي – من صحّحه بمجموع الطرق، فإن شرط التقوية ألا تكون الطرق أوهاماً أو مناكير أو بواطيل.
أما أحكام العلماء على أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان،فقد سبق ذكر أحكامهم على أفرادِها؛ ولكن سأذكر هنا مَنْ قَوَّى الحديث ومن ضعّفه على وجه العموم.
فممن قَوَّى الحديث: ابن حبان، والمنذري في الترغيب والترهيب، وللبيهقي كلامٌ ليس صريحاً في التصحيح، ذكره أبو شامة في الباعث (132)، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلامٌ يدل على تصحيح أو قبول ما ورد في فضائلها، وذكر أنه نصُّ الإمام أحمد وأكثر الحنابلة (اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 136 - 137، واختيارات البعلي 65) ولشيخ الإسلام كلامٌ آخر يدل على توقفه عن تصحيح حديثها (مجموع الفتاوى 3/ 388).
وصحح الحديث أخيراً: العلامة الألباني – رحمه الله – كما سبق. أمّا الذين ضعفوا الحديث من جميع وجوهه، فسبق منهم الدارقطني والعقيلي في الضعفاء (ترجمة: عبدالملك بن عبدالملك 3/ 789)، وابن الجوزي كما في العلل المتناهية (رقم 915 - 924)، وأبو الخطاب ابن دحية (أداء ما وجب 80)، وأبو بكر ابن العربي (أحكام القرآن 4/ 1690) وأقره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (16/ 128). بل قال أبو الخطاب ابن دحية: " قال أهل التعديل والتجريح: ليس في حديث النصف من شعبان حديث يصح ". (الباعث لأبي شامة: 127).
وقال ابن رجب: " وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث متعددة، وقد اختُلف فيها، فضعّفها الأكثرون، وصحّح ابن حبان بعضها ". (لطائف المعارف: 261) بل صحّ عن جمع من السلف إنكار فضلها.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وهو من أتباع التابعين من أهل المدينة): " لم أدرك أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحداً منهم يذكر حديث مكحول ولا يرى لها فضلاً على سواها من الليالي "، أخرجه ابن وضاح بإسناد صحيح في ما جاء في البدع (رقم 119)، وقال ابن أبي مُليكة (وهو من جِلّة التابعين وفقهائهم بالمدينة)، وقيل له: إن زياداً النميري يقول: إن ليلة النصف من شعبان أجْرُها كأجر ليلة القدر، فقال: لو سمعته يقول ذلك وفي يدي عصاً لضربته بها " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (رقم 7928)، وابن وضاح في ما جاء في البدع (رقم 120) بإسناد صحيح.
ولما سئل عبد الله بن المبارك عن النزول الإلهي ليلة النصف من شعبان قال للسائل: " يا ضعيف! ليلة النصف؟! ينزل في كل ليلة " أخرجه أبو عثمان الصابوني في اعتقاد أهل السنة (رقم 92).
وقال ابن رجب في لطائف المعارف (263): " وليلةُ النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام، كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم يُعظّمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم يأخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عُبّاد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن أبي مُليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كلّه بدعة ".
وأما قول ابن رجب من أن مرجع تعظيم هذه الليلة إلى الإسرائليات فقد وجدُت ما يشهد له، من أن مكحولاً الشامي (وهو مرجع أكثر طرق الحديث كما سبق) قد رُوي هذا الحديث عنه في بعض الوجوه عن كعب الأحبار!! كما تراه في كتاب النزول للدارقطني (162 - 164، 168 رقم 88)، وانظر لطائف المعارف أيضاً (264).
ومما نقله ابن رجب في لطائف المعارف (264) ويخالف ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول ابن رجب:" ولا يُعرف للإمام أحمد كلام في ليلة النصف من شعبان ".
¥