والثّاني: بعهد الإمام من قبل.
فأمّا انعقادها باختيار أهل الحلّ والعقد، فلا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد. قال أحمد، في رواية إسحاق بن إبراهيم: الإمام: الّذي يجتمع عليه، كلّهم يقول: هذا إمام.
وظاهر هذا: أنّها تنعقد بجماعتهم.
وروي عنه ما دلّ على أنّها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد. فقال في رواية عبدوس بن مالكٍ العطّار: ومن غلب عليهم بالسّيف حتّى صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لأحدٍ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، برّاً كان أو فاجراً. وقال أيضاً في رواية أبي الحارث - في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم -: تكون الجمعة مع من غلب واحتجّ بأنّ ابن عمر صلّى بأهل المدينة في زمن الحرّة. وقال:" نحن مع من غلب ".
وجه الرّواية الأولى: أنّه لمّا اختلف المهاجرون والأنصار، فقالت الأنصار:" منّا أمير ومنكم أمير " حاجّهم عمر، وقال لأبي بكرٍ رضي الله عنهما:" مدّ يدك أبايعك "فلم يعتبر الغلبة واعتبر العقد مع وجود الاختلاف.
ووجه الثّانية: ما ذكره أحمد عن ابن عمر وقوله: نحن مع من غلب ولأنّها لو كانت تقف على عقدٍ لصحّ رفعه وفسخه بقولهم وقوله، كالبيع وغيره من العقود، ولمّا ثبت أنّه (أي المتغلّب) لو عزل نفسه أو عزلوه لم ينعزل، دلّ على أنّه لا يفتقر إلى عقده.
ولأنّ عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزّبير واستولى على البلاد وأهلها، حتّى بايعوه طوعاً وكرهاً، فصار إماماً يحرم الخروج عليه، ولما في الخروج عليه من شقّ عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم. ولخبر: «اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشيّ أجدع». وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء.
وذكر الشّافعيّة قولاً: يشترط لصحّة إمامة المتغلّب استجماع شروط الإمامة. كما يشترط الشّافعيّة أيضاً: أن يستولي على الأمر بعد موت الإمام المبايع له، وقبل نصب إمامٍ جديدٍ بالبيعة، أو أن يستولي على حيٍّ متغلّبٍ مثله. أمّا إذا استولى على الأمر وقهر إماماً مولًّى بالبيعة أو بالعهد فلا تثبت إمامته، ويبقى الإمام المقهور على إمامته شرعاً.
اختيار المفضول مع وجود الأفضل:
19 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا تعيّن لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة، فبايعوه على الإمامة، فظهر بعد البيعة من هو أفضل منه، انعقدت بيعتهم إمامة الأوّل ولم يجز العدول عنه إلى من هو أفضل منه. كما اتّفقوا على أنّه لو ابتدءوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل لعذرٍ، ككون الأفضل غائباً أو مريضاً، أو كون المفضول أطوع في النّاس، وأقرب إلى قلوبهم، انعقدت بيعة المفضول وصحّت إمامته، ولو عدلوا عن الأفضل في الابتداء لغير عذرٍ لم يجز.
أمّا الانعقاد فقد اختلفوا في انعقاد بيعة المفضول مع وجود الأفضل بغير عذرٍ، فذهبت طائفة إلى أنّ بيعته لا تنعقد، لأنّ الاختيار إذا دعا إلى أولى الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره. وذهب الأكثر من الفقهاء والمتكلّمين إلى أنّ الإمامة جائزة للمفضول مع وجود الأفضل، وصحّت إمامته إذا توفّرت فيه شروط الإمامة. كما يجوز في ولاية القضاء تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأنّ زيادة الفضل مبالغة في الاختيار، وليست شرطاً فيه. وقال أبو بكرٍ يوم السّقيفة: قد رضيت لكم أحد هذين الرّجلين: أبي عبيدة بن الجرّاح، وعمر بن الخطّاب. وهما - على فضلهما دون أبي بكرٍ في الفضل، ولم ينكره أحد.
ودعت الأنصار إلى بيعة سعدٍ، ولم يكن أفضل الصّحابة بالاتّفاق، ثمّ عهد عمر رضي الله عنه إلى ستّةٍ من الصّحابة، ولا بدّ أن يكون بعضهم أفضل من بعضٍ.
وقد أجمع أهل الإسلام حينئذٍ على أنّه لو بويع أحدهم فهو الإمام الواجب طاعته. فصحّ بذلك إجماع الصّحابة رضي الله عنهم، على جواز إمامة المفضول.
عقد البيعة لإمامين:
20 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز كون إمامين في العالم في وقتٍ واحدٍ، ولا يجوز إلاّ إمام واحد. واستدلّوا بخبر: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وقوله تعالى: {وأطيعوا اللّه ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا}.
¥