واستدلوا لذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي ثعلبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.
- ومن أسباب الخلاف في هذه المسألة:
تعارض دلالة حديث أبي ثعلبة مع حديث جابر المذكورين.
- ومن أسبابه: خلاف العلماء في قول جابر: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يعني أنه سمع أنه صيد يُفدى، أو أن الذي سمعه: أنه يؤكل؟
فالحديث محتمل للأمرين، والمانعون قالوا: إن جابراً نسب اعتباره صيداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بالتحريم فهماً منه بأن وصف الصيد يبيح الأكل؛ فلا يكون فهمه معارضاً لدلالة حديث أبي ثعلبة الصريح في تحريم أكل كل ذي ناب من السباع.
- ومن أسباب الخلاف التردد في الضبع: هل هو سبع له طبع العدوان؛ كالأسد والنمر والذئب؟
وهل له ناب؟ حتى يُطبق وصفا الحديث في النهي عن "كل ذي ناب من السباع".
فسلم الإمام ابن القيم رحمه الله ـ الذي يرى جواز أكله ـ بأنه ذو ناب، ولكنه لا يراه سبعاً عادياً؛ حيث قال: ( .. فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين: أن يكون له ناب، وأن يكون من السباع العادية بطبعها؛ كالأسد والذئب والنمر والفهد، وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين، وهو كونها ذات ناب، وليست من السباع العادية) أهـ.
وإذا كان وصف "الناب" ووصف "السبُعية" تعبدان لا يُعقل لهما معنى؛ فالضبع سبع ذو ناب.
أما صفة السبعية والعدوانية فهي ظاهرة فيه؛ حيث يعدو على الحيوانات مأكولة اللحم؛ كالغزال والإيل والبقر الوحشية؛ بل إنه يعدو على الإنسان ويأكله، ويعدو على السباع الصغيرة أو الوحيدة فيفترسها، وهذا ظاهر لمن تأمل سلوكه؛ فعليه فهو مشمول بالنهي في حديث أبي ثعلبة المذكور.
وإن كان الوصفان معقولين مقصودهما أن ما فيه هاتان الصفتان فإن أغلب اغتذائه على اللحوم فيحرم فالضبع كذلك، مع ما ينحط به عن بقية السباع بما يصفه علماء الأحياء بكونه من "المفترسات القمَّامة" أو "منظفات البيئة" التي تأكل الجيف والمنتنات.
وأما حديث جابر فلا يصح الاستدلال به لتخصيص الضبع من عموم النهي؛ لما أورد عليه من الاحتمالات القوية في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتمال إذا ورد بطل به الاستدلال؛ كما تقرر ذلك في الأصول.
وتأيد هذا أنه جاء الحديث من وجوه أخرى بكونه صيداً عن جابر نفسه، وكذلك عن ابن عباس وأبي هريرة، ولم يذكر فيها حل أكله، وذكْرُ حل الأكل أولى بالتنويه من ذكر كونه صيداً؛ مما يؤكد أن الذي رواه جابر هو كونه صيداً يُفدى؛ لا أنه حلال يؤكل.
وروى أحمد في "مسنده" (14137) بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عمارٍ أنه قال: قلتُ لجابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه: آكُلُ الضَّبُعَ؟ قال: نعم، قلت: أصيدٌ هِي؟ قال: نعم، قلت: أسمعت ذلكَ من رسولِ الله، قالَ: نَعَمْ.
ففي هذه الرواية ما يختلف عن الرواية المذكورة في أدلة المبيحين، وذلك في في ترتيب ذكر مسألتي الصيد والأكل؛ فجابرٌ رضي الله عنه في هذه الرواية أبدى رأيه أولاً في حل لحمه، ثم قال له السائل: أصيد هي؟ فقال: نعم، وذكر أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا موافق للروايات التي روى فيها جابر كونها صيداً، ولم يرو حل أكلها.
وغاية ما دل عليه حديث جابر ما فيه أنها صيد يفدي في الإحرام، ولا دلالة فيه على حل أكلها لهذا المعنى، ففي مذهبي الحنفية والحنابلة أن كون الشيء صيداً يفدى ليس من شرطه حل أكله؛ حيث يُقصد الضبع والثعلب وغيرهما بالصيد للانتفاع بجلودها.
وقد سئل الإمام أحمد عن محرم قتل ثعلباً؟ فقال: عليه الجزاء هي صيد، والإمام أحمد يرى حرمة أكل الثعلب، وانظر "الإنصاف" (10/ 360).
فتلخص من هذا أن المحكم هنا هو حديث أبي ثعلبة في النهي عن كل ذي ناب من السباع، وأما حديث جابر فإن لم يُقل: لا دلالة فيه فهو مشتبه محتمل يُرد إلى المحكمات.
¥