الحمدلله رب العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .. أما بعد:
فإن رمضان شهر تصفد فيه الشياطين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وتصفيدها من أعظم أسباب التغلب عليها والعافية منها ومن شرها، حيث ورد لفظ سلسلت وذلك في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين».
وورد كذلك لفظ صفدت وذلك في الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه وصححه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جاءكم رمضان شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم».
وورد كذلك لفظ تسلسل وذلك في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي وصححه من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا رمضان قد جاءكم تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتسلسل فيه الشياطين».
فإذا كانت الشياطين هي المتسلطة على المسلمين بالمس والأذى والعذاب والألم والحرب والوسوسة والإفساد والتحريش والتفريق، سواء من دخل في الأجساد ولابسها أو من يوحي للإنسان ويؤزه من خارجه، فإذا صفدت في هذا الشهر الكريم فهي فرصة كبيرة للتغلب على الشياطين، ومن مس الجسد من الجن وإحراقه وإهلاكه.
ولكن ما معنى التصفيد الذي ورد في الحديث وبألفاظ مختلفة؟
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وصفدت الشياطين"
قال عياض: "يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته ومنع الشياطين من أذى المؤمنين".
"ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين".
وقال أيضاً: "وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزين الشهوات".
ونقل ابن حجر أيضاً عن القرطبي في معنى التصفيد: "أنها أي الشياطين تقل عن الصائمين في الصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه".
أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم، كما تقدم في بعض الروايات.
أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أٌقل من غيره.
وقال ابن مفلح رحمه الله: "الشياطين تسلسل وتغل في رمضان على ظاهر الحديث، أو المراد مردة الشياطين كما ورد بهذا اللفظ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه في الإفطار فإن المصفد هو المقيد، إنما يتمكنون من بني آدم بسبب الشهوات، فإذا كفوا عن الشهوات صفدت الشياطين".
ومن خلال نقولات كلام السلف وأهل العلم في معنى التصفيد نستخلص الآتي:
أولاً: أن معنى التصفيد يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته قد يكون لجميع الشياطين وقد يكون للمردة منهم فقط وقد يكون لإبليس وذريته دون سواهم وقد يكون لكفار الجن، وكل هذه الأقوال ذكرها أهل العلم.
ومما يؤيد هذا المعنى أن حال الشياطين تختلف عن حال الإنس، فإنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الشيطان لا يقرب من قراء آية الكرسي عند نومه حتى يصبح فكيف يحصل منعه ممن قرأها؟
وكذلك فإن البسملة حجاب للإنس عن الجن فكيف يكون الحجاب بالبسملة؟
وتأثر الشيطان برقية الموقن أكثر من رقية من هو أقل يقيناً، فكيف يكون ذلك؟
فسبحان من أحكم خلقه وتدبيره.
ثانياً: ويحتمل أن معنى التصفيد هو عبارة عن عدم قدرة الشياطين على الإغواء عن طريق تضييق مجاري الدم بالصيام والتي يجري منها الشيطان فلا يصل إلى الإغواء كما يصل إليه في غير الصيام فيكون كالمصفد فيقبل الإنسان على العبادات والطاعات وأنواع القربات.
ومما يؤيد هذا المعنى وهو أن التصفيد عبارة عن عدم قدرة الشيطان على الإغواء في رمضان أمور منها:
أن بعد الشيطان عن الصائم وعدم قدرته عليه كما لو كان مفطراً يكون في رمضان وفي غيره مع أنه في رمضان أكد وذلك بحسب كمال الصوم ونقصه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه دفع الصوم الناقص".
¥