[كلام عن الوشاية من كتاب تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون]
ـ[ناصر علي البدري]ــــــــ[05 - 11 - 03, 07:59 م]ـ
من كتاب تمام المتون
شرح رسالة ابن زيدون والتي كتبها لابن جهور
للعلامة الصفدي
وقوله: "والسعاة الذين ذكرهم الأحنف بن قيس، فقال: ما ظنك بقوم الصدق محمود إلا منهم"!.
السعاة: جمع ساع، من السعى، وهو الحركة مطلقا، ولكن قد غلب هذا في العرف على من يذكر الناس بالسوء، وهو الذي يريد للناس المواقع.
قال شيخنا شهاب الدين محمود رحمه الله بيتين أولين وهما قوله:
يا ملزمي بذنوب ما أحطت بها علما ولا خطرت يوما على فكري
صدقت فيَّ أباطيل الظنون وكم كذبت فيك يقين السمع والبصر
وأما قول الأحنف بن قيس:
" ما أقول في قوم الصدق محمود إلا منهم "
فهذا قول في غاية البلاغة الجامعة لضروب من المعاني، لأن هذا غاية في الذم للسعاة، لأنهم يذمون بما يحمد به الناس؛ لأن هؤلاء لما تعاطوا هذا الصدق الذي أجمع الناس على مدحه، ومدحه الله ورسوله وأكابر الناس وعلماؤهم، وتلبس به هؤلاء الأنذال الأوباش صار مذموما عند العقلاء والرؤساء؛ وصدق هؤلاء السعاة مذموم، وكذب الشعراء محمود.
قال بعضهم في وصف الشعراه:
ما ظنك بقوم الاقتضاء محمود إلا منهم والكذب مذموم إلا منهم.
ودفع بعض السعاة إلى الأمير السفاح قصة بسعاية على بعض عماله، فوقع فيها: "هذه نصيحة لم ترد بها ما عند الله، ونحن لا نقبل قول من آثرنا على الله ". وكتب بعض شهود الأهواز إلى الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر: قد مات فلان، وخلف خمسين ألف دينار عينا، ولم يخلف غير طفلة، فإن رأى استعراض المال إلى أن تبلغ الطفلة، ففي عقارها وأملاكها كفاية! فوقع على ظهر كتابه: "الطفلة جبرها الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله، لا حاجة للسلطان إلى المال ".
ولما ولى عبد العزيز بن عبد الملك دمشق ولم يكن في بني أمية ألب منه في حداثة سنة؛ قال أهل دمشق: هذا غلام شاب ولا علم له بالأمور، وسيسمع منا. فقال إليه رجل فقال: أصلح الله الأمير! عندي نصيحة، فقال: ليت شعري، ما هذه النصيحة التي ابتدأتني بها من غير يد سبقت مني إليك! قال: جار لي عاص، مختلف معه. فقال: ما اتقيت الله، ولا أكرمت أميرك، ولا حفظت جارك، إن شئت نظرنا فيما تقول، فإن كنت صادقا فيما قلت لم ينفعك ذلك عندنا، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن شئت أقلناك؛ قال: أقلني، قال: اذهب حيث شئت، لأصحبك الله! إني أراك شر رجل. ثم قال: يا أهل دمشق؛ لولا أنه لا ينبغي للوالي أن يعاقب قبل أن يعاتب، كان لي في ذلك رأي، فلا يأتني أحد منكم بسعاية على أحد بشيء؛ فإن الصادق فيها فاسق، والكاذب فيها بهات.
قال معاوية يوما للأحنف بن قيس في أمر بلغه عنه، فأنكر الأحنف؛ فقال له معاوية: الثقة بلغني عنك، فقال: الثقة لا يبلغ.
ووقع ذو الرياستين في رقعة ساع: " نحن نرى قبول السعاية شرا منها؛ لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء وأخبر به، كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي؛ فإنه لو كان في سعايته صادقا لكان في صدقه آثما إذ لم يحفظ الحرمة، ولم يستر العورة ".
وقال رجل للمهدي: عندي لك نصيحة يا أمير المؤمنين، قال: لمن هي؟ لنا أم لعامة المسلمين أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين، قال: ليس الساعي بأعظم عورة، ولا أقبح حالا من قابل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة، فلا نشفي غيظك، أو عدوا فلا نعاقب لك عدوك. ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح إلا بما فيه رضا الله، وللمسلمين فيه صلاح، فإنما لنا الأبدان، وليس لنا القلوب، ومن استتر لم نكشف له، ومن أخطأ أقلنا عثرته، إني أرى التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع المعاجلة، والقلوب لا تبقى لوال لا ينعطف إذا استعطف، ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا ظفر، ولا يرحم إذا استرحم.
وما ألطف قول البهاء زهير وأرقه! قال:
حبيبي ما هذا الجفاء الذي أرى وأين التغاضي منكم والتعطف
لك اليوم أمر – لا أشك – يريبني فما وجهك الوجه الذي كنت أعرف
نعم نقل الواشون عني باطلا وملت لما قالوا، فزادوا وأسرفوا
كأنك قد صدقت فيَّ حديثهم وحاشاك من هذا، فخلقك أشرف
وقد كان قول الناس في الناس قبلنا فكُذِّب يعقوب، وسُرق يوسف
بعيشك قل لي ما الذي قد صنعته فإنك تدري ما أقول وتنصف
فإن كان قولا صح أني قلته فللقول تأويل وللقول مصرف
وهب أنه قول من الله منزل فقد بدلوا التوراة يوما وحرفوا
وها أنا والواشي وأنت جميعنا يكون لنا يوم عظيم وموقف
أخي الكريم:
حتى يهنئ لك العيش مع إخوانك فاتبع منهج القرآن ورسول الأنام في قمع هذا الداء العضال في المسلمين وذلك عن طريق التالي:
1. ينبغي إذا جاءك من يبلغ عن أخيك شيئا تكرهه، ألا تسمع منه أصلا فإن سمعت منه فقال ما تكره ينبغي أن تقوم بالمواجهة بين الناقل والمنقول عنه وذلك يكشف كذب الكاذبين وإن كان في الأمر لبس يوضحه للجميع، وإياك من أن تبني أحكام على مجرد كلام بلا دليل أو برهان إذ أن هذا يخالف منهج الرحمن ألم تعلم أن الله يأتي بالخصمين يوم القيامة فيفصل بينهما، بل يأتي بالشاتين القرناء والجلحاء ويأخذ للجلحاء من القرناء، إن الله الذي يعلم الحق ويعلم من له الحق على من مسبقا يأتي بالخصمين، فلا ينبغي أن تفعل خلاف هذا وتزعم أنك ناصح أو لا تريد الفتنة فإن ترك هذا الأمر هو عين الفتنة لأنه اليوم الكلام على أخيك وغدا يكون عليك، فانتبه رحمك الله، وإياك وقولهم بلغني الثقة حدثني أخ أثق به فهذا خطأ كبير تبين لك أمره سابقا فإن الثقة لا يبلغ.
وفي الأخير يغفر الله لي ولكم وهو أرحم الراحمين.