فدل ذلك على أنه ميت، وعلى أن روحه قد فارقت جسده، لكنها ترد عليه عند السلام، والنصوص الدالة على موته – صلى الله عليه وسلم – من القرآن والسنة معلومة، وهو أمر متفق عليه بين أهل العلم، ولكن ذلك لا يمنع حياته البرزخية، كما أن موت الشهداء لم يمنع حياتهم البرزخية المذكورة في قوله تعالى: " وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" [آل عمران:169].
وإنما بسطنا الكلام في هذه المسألة، لدعاء الحاجة إليه بسبب كثرة من يشبه في هذا الباب، ويدعو إلى الشرك وعبادة الأموات من دون الله، فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين السلام من كل ما يخالف شرعه، والله أعلم.
وأما ما يفعله بعض الزوار من رفع الصوت عند قبره – صلى الله عليه وسلم -، وطول القيام هناك فهو خلاف مشروع؛ لأن الله سبحانه نهى الأمة عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي – صلى الله عليه وسلم -، وعن الجهر له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وحثهم على غض الصوت عنده في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ" [الحجرات:2 - 3].
ولأن طول القيام عند قبره – صلى الله عليه وسلم -، والإكثار من تكرار السلام يفضي إلى الزحام وكثرة الضجيج وارتفاع الأصوات عند قبره – صلى الله عليه وسلم -، وذلك يخالف ما شرعه الله للمسلمين في هذه الآيات المحكمات، وهو - صلى الله عليه وسلم – محترم حياً وميتاً، فلا ينبغي للمؤمن أن يفعل عند قبره ما يخالف الأدب الشرعي.
وهكذا ما يفعله بعض الزوار وغيرهم من تحري الدعاء عند قبره مستقبلاً للقبر رافعاً يديه يدعو، فهذا كله خلاف ما عليه السلف الصالح من أصحاب رسول الله وأتباعهم بإحسان، بل هو من البدع المحدثات، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" أخرجه أبو داود، والنسائي بإسناد حسن، وقال – صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أخرجه البخاري، ومسلم، وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
ورأى علي بن الحسين زين العابدين – رضي الله عنهما – رجلاً يدعو عند قبر النبي – صلى الله عليه وسلم -، فنهاه عن ذلك، وقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"، أخرجه الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه: (الأحاديث المختارة).
وهكذا ما يفعله بعض الزوار عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم – من وضع يمينه على شماله فوق صدره أو تحته كهيئة المصلي فهذه الهيئة لا تجوز عند السلام عليه – صلى الله عليه وسلم، ولا عند السلام على غيره من الملوك والزعماء وغيرهم، لأنها هيئة ذل وخضوع وعبادة لا تصلح إلا لله، كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح عن العلماء، والأمر في ذلك جلي واضح لمن تأمل المقام وكان هدفه اتباع هدي السلف الصالح.
وأما من غلب عليه التعصب والهوى والتقليد الأعمى وسوء الظن بالدعاة إلا هدي السلف الصالح فأمره إلى الله، ونسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق لإيثار الحق على ما سواه إنه سبحانه خير مسئول.
وكذا ما يفعله بعض الناس من استقبال القبر الشريف من بعيد وتحريك شفتيه بالسلام أو الدعاء فكل هذا من جنس ما قبله من المحدثات، ولا ينبغي للمسلم أن يحدث في دينه ما لم يأذن به الله، وهو بهذا العمل أقرب إلى الجفاء منه إلى الموالاة والصفاء، وقد أنكر الإمام مالك رحمه الله هذا العمل وأشباهه، وقال: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها".
ومعلوم أن الذي أصلح أول هذه الأمة هو السير على منهاج النبي – صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين وصحابته المرضيين وأتباعهم بإحسان، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا تمسكهم بذلك، وسيرهم عليه.
وفق الله المسلمين لما فيه نجاتهم وسعادتهم وعزهم في الدنيا والآخرة، إنه جواد كريم.
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - (16/ 99 - 111)