زراعة عضو استؤصل في حدٍّ أو قَصاص
ـ[أبو حميد الفلاسي]ــــــــ[02 - 12 - 03, 01:38 ص]ـ
زراعة عضو استؤصل في حدٍّ أو قَصاص
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا ومولانا محمد النبي الأمين , وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين , وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فموضوع هذا البحث معرفة الحكم الشرعي في مسألة زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص , وإعادته إلى محله بعملية من عمليات الطبّ الحديث , هل يجوز ذلك شرعاً؟ وما حكم من فعل ذلك؟
وبما أن المسألة أخذت اليوم مكانها من الأهمية بفضل ما وصل إليه التقدّم الطبّي في مجال زرع الأعضاء الذي لم يكن متصوراً في الأزمنة الماضية , فقد يزعم الزاعمون أنها مسألة مستجدة لا يمكن أن يوجد لها ذكر صريح في كتب الفقهاء السالفين , ولكن هذا الزعم غير صحيح. والواقع أن الفقهاء المتقدمين ذكروا هذه المسألة ودرسوها من النواحي المختلفة بما يدل في جانب على مدى توسّعهم في تصوير المسائل ودقة أنظارهم في بيان الأحكام. وفي جانب آخر , على أن إعادة العضو إلى محلّه لم يكن أمراً غير متصور في عهدهم و بل كان أمراً عرفه وجربه المتقدمون , حتى في القرن الثاني من الهجرة , إذ يتحدث عنه الإمام مالك رحمه الله تعالى بكل بصيرة طيّبة لا تزال صادقة حتى اليوم.
نقاط البحث:
وقبل أن آتي بنصوص الفقهاء في المسألة أريد أن أحدّد مجال البحث في نقاط آتية:
(1) إذا جنى رجل على آخر , فقطع عضواً من أعضائه , ثم أعاده المجني عليه إلى محله قبل استيفاء القصاص أو الأرش و هل يؤثر ذلك في سقوط القصاص أو الأرش؟ ولو أعاده بعد استيفاء القصاص , هل يؤثر ذلك فيما استوفاه من القصاص أو الأرش؟ وألقب هذه المسألة بـ (زرع المجني عليه عضوه)
(2) إذا قطع عضو الجاني قصاصاً , فهل يجوز له أن يعيده إلى محلّه بطريق الزراعة؟ أو يعتبر ذلك إبطالاً لحكم القصاص؟ وإن أعاد الجاني عضوه المقتص منه هل يجوز للمجني عليه أن يطالبه بالقصاص مرة ثانية؟
(3) إن زرع أحد عضوه المنفصل عنه – سواء كان في حد أو قصاص لو لسبب آخر – فأعاده إلى محلّه , هل يعتبر ذلك العضو طاهراً؟ أو يعتبر نجساً بحيث لا تجوز معه الصلاة فيؤمر بقلعه مرة أخرى؟
(4) هل يجوز للسارق المقطوع يده أو رجله أن يعيدها إلى محلّهما؟ أو يعتبر اعتداء على الحكم الشرعي في قطع يد السارق , ولئن فعل ذلك أحد , هل تقطع يده مّرة ثانية؟
وأريد أن أتكلم عن كل واحدة من هذه المسائل في فصل مستقل وبالله التوفيق.
المسألة الأولى: زرع المجني عليه عضوه
أم المسألة الأولى , وهي أن يعيد المجني عليه عضوه المقطوع إلى محلّه , فأول من سئل عنها وأفتى فيها فيما أعلم: إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى , فقد جاء في المدونة الكبرى (قلت: - القائل سحنون – أرأيت الأذنين إذا قطعهما رجل عمداً فردها صاحبهما فبرأت فثبتتا , أو السن إذا أسقطهما الرجل عمداً , فردها صاحبها فبرأت وثبتت , أيكون القود على قاطع الأذن أو قاطع السن؟ قال – أي القاسم -: سمعتهم يسألون مالكاً , فلم يرد عليهم فيها شيئاً. قال: وقد بلغني عن مالك أنه قال: في السنّ القود وإن ثبت , وهو رأيي , والأذن عندي مثله أن يقتص منه. والذي بلغني عن مالك في السنّ لا أدري أهو في العمد يقتص منه , أو في الخطأ أن فيه العقل؟ إلا أن ذلك كله عندي سواء في العمد وفي الخطأ) ()
ثم تتابعت فيه الروايات عن الإمام مالك وتلامذته رحمهم الله , واتفقت الروايات جميعاً على أن المجني عليه في العمد إن أعاد عضوه إلى محلّه , فلا يسقط القصاص عن الجاني , سواء كان العضو قد عاد إلى هيئته السابقة أو بقي فيه عيب , أما إذا كانت الجناية خطأ فإن قضي على الجاني بالدية , قم أعاد المجني عليه عضوه بعد القضاء , فالروايات متفقة أيضاً على أن الأرش لا يردّ. وأما إذا أعاد عضوه قبل القضاء على الجاني بالدية , ففيه ثلاث روايات. وقد فصل ابن رشد الجدّ هذه المسألة في كتابه (البيان والتحصيل) فقال: (وأما الكبير تصاب سنّه فيقضي له بعقلها , ثم يردها صاحبها فثبتت. فلا اختلاف بينهم في أنه لا يرد العقل إذ لا ترجع على قوتها. هذا مذهب ابن القاسم , وقول أشهب في كتاب ابن المواز , وروايته عن مالك.
¥