وهنا علّل السرخسي عدم سقوط الأرش بكون العضو بكون العضو لا يعود إلى حالته السابقة بعد الالتصاق , وفرّع عليه المتأخرون أن (هذا إذا لم يعد إلى حالته الأولى بعد الثبات في المنفعة والجمال , والغالب أن لا يعود إلى تلك الحالة. وإذا تصور عود الجمال والمنفعة بالإثبات لم يكن على القالع شيء , كما لو نبتت السنّ المقطوع) كما ذكره الزيلعي غيره عن شيخ الإسلام ().
ولكن المسألة عن الحنفية مفروضة في جناية الخطأ , كما رأيت في عبارة الإمام محمد بن الحسن والإمام السرخسي , ولهذا اكتفوا بذكر سقوط الأرش , ولم أجد في كتب الحنفية حكم العمد , وأنه هل يسقط القصاص عندهم فيه بإعادة العضو أو لا؟ والظاهر أنه لا يسقط وإن أعاده المجني عليه على هيئته , وذلك لما ذكرنا في الحديث عن مذهب المالكية , من أن القصاص جزاء للاعتداء القصديّ من الجاني , وهو واقع لا يزول بهذه الإعادة , فلمّا ذهب الحنفية إلى أن الأرش لا يسقط بها , فلأن لا يسقط بها القصاص أولى ().
نعم , ذكر الحنفية أن القصاص يسقط فيما إذا نبتت سنّ المجني عليه بنفسها , ولكن لا يقاس عليه مسألة زرع العضو وإعادته ,. وذلك لأمرين , الأول: أن العضو المزروع لا يكون في قوة النابت بنفسه , والثاني: إن نبتت السنّ بنفسها ربما يدل على أن السن الأولى لم يقلعها الجاني من أصلها , فتصبر شبهة في وجوب القصاص بخلاف ما أعيد بعملية , فإنه ليس في تلك القوة , ولا يدل على أن الجاني بم يستأصله.
فالظاهر أن إعادة العضو من قبل المجني عليه لا يسقط القصاص عند الحنفية أيضاً كما لا يسقطه المالكية.
مذهب الشافعية:
ثم تكلم في المسألة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى , فقال في كتاب الأم (وإذا قطع الرجل أنف رجل أو أذنه أو قلع سنه فأبانه ثم إن المقطوع ذلك منه ألصقه بدمه , أو خاط الأنف أو الأذن أو ربط السنّ بذهب أو غيره , فثبت وسأل القود قله ذلك , لأنه وجب له القصاص بإبانته) ().
وذكر النووي رحمه الله هذه المسألة في الروضة , فألحق بها مسألة الدية , فقال (قطع أذن شخص , فألصقها المجني عليه في حرارة الدم , فالتصقت , لم يسقط القصاص ولا الدية عن الجاني , لأن الحكم يتعلق بالإبانة وقد وجدت) ().
فاتضح بهذه النصوص أن مذهب الشافعية في هذا مثل المختار من مذهب المالكية , أن إعادة العضو المجني عليه لا يسقط القصاص ولا الأرش.
مذهب الحنابلة:
وأما الحنابلة فلهم في هذه المسألة وجهان وقد ذكرهما القاضي أبو يعلى فقال (إذا قطع أذن الرجل و فأبانها ثم ألصقها المجني عليه في الحال فالتصقت , فهل على الجاني القصاص أم لا؟ قال أبوبكر في كتاب الخلاف: لا قصاص على الجاني وعليه حكومة الجراحة , فإن سقطت بعد ذلك بقرب الوقت أو بعده كان القصاص واجباً , لأن سقوطها من غير جناية عليها من جناية الأول , وعليه أن يعيد الصلاة. واحتج بأنها لو بانت لم تلتحم , فلمّا ردّها والتحمت كانت الحياة فيها موجودة , فلهذا سقط القصاص.
وعندي أن على الجاني القصاص , لأن القصاص يجب بالإبانة , وقد أبانها. ولأن القصاص الإلصاق مختلف في إقرار عليه , فلا فائدة له فيه) ().
وكذلك ذكر ابن قدامة القولين , ولم يرجح واحداً منهما وكذلك فعل أبو إسحاق ابن مفلح () وذكر المرداوي وشمس الدين وابن المفلح القولين , واختار قول القاضي إنه لا يسقط القصاص () واختار البهوتي قول أبي بكر في أنه يسقط القصاص والأرش كلاهما ().
القول الراجح في المسألة:
والقول الراجح عندنا ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والحنفية والشافعية , وجماعة من الحنابلة أن زرع المجني عليه عضوه لا يسقط القصاص أو الأرش من الجاني , لأن القصاص جزاء للاعتداء الصادر منه , وقد حصل هذا الاعتداء بإبانة العضو , فاستحق المجني عليه القصاص في العمد والأرش في الخطأ , فلا يسقط هذا الحق بإعادة عضوه إلى محله وذلك لأمور:
(1) إن إعادة العضو من قبل المجني عليه علاج طبي للضرر الذي لحقه بسبب الجناية , وإنّ البرء الحاصل بالعلاج لا يمنع القصاص والأرش , كما في الموضحة , وإن عالجها المجني فبرئ فإنه لا يمنع حقه في استيفاء القصاص أو الأرش. فكذلك العضو إذا أعيد بعد الإبانة من الجاني , فإنه لا يؤثر فيما ثبت له على الجاني من قصاص أو أرش.
¥