واختاره المرداوي والبهوتي أيضاً. قال البهوتي رحمه الله (ومن قطعت أذنه ونحوها كمارنه قصاصاً , فألصقها فالتصقت , فطلب المجني عليه إبانتها , لك يكن له ذلك , لأنه استوفى القصاص. قطع به في " المغني " و " الشرح ". والمنصوص أنه يقاد ثانياً , اقتصر عليه في الفروع , وقدمه في المحرر وغيره. قال في " الإنصاف " (): في ديات الأعضاء ومنافعها: أقيد ثانية على الصحيح من المذهب. وقطع به في التنقيح هناك وتبعه في " المنتهى ". قال في شرحه: للمجني عليه إبانته ثانياً , نص عليه لأنه أبان عضواً من غيره دوماً , فوجبت إبانته منه دواماً لتحقق المقاصة) ().
وأما المالكية فقد ذكروا إعادة المجني عليه عضوه , كما نقلنا عنهم في المسألة الأولى , ولم يذكروا إعادة الجاني عضوه بعد القصاص بهذه الصراحة التي وجدناها في كتب الشافعية والحنابلة. ولكن وجدت للمسألة ذكراً مختصراً في كلام ابن رشد رحمه الله , حيث يقول (فإن اقتص بعد أن عادا لهيئتها , فعادت أذن المقتص منه أو عينه فذلك , وإن لم يعودا , أو قد كانت عادت سنّ الأول أو أذنه فلا شيء له , وإن عادت سنّ المستقاد منه أو أذنه , ولم تكن عادت سنّ الأول ولا أذنه غرم العقل. قاله أشهب في كتاب ابن المواز) ().
وحاصله أن إعادة الجاني عضوه إنما لا يؤثر في القصاص , إذا كان المجني عليه أعاد عضوه أيضاً , أما إذا لم يعد المجني عليه أعاده الجاني , فإن الجاني يغرم العقل.
أما الحنفية , فلم أجد عندهم مسألة إعادة الجاني عضوه ولكن ذكر في (الفتاوى الهندية) عن (المحيط) مسألة تشابه ما نحن فيه, وهي ما يلي (إذا قلع رجل ثنية رجل عمداً , فاقتص له من ثنية القالع , ثم نبتت ثنية المقتص منه , لم يكن للمقتص له أن يقلع تلك الثنية التي نبتت ثانياً) ().
وهذا يدل على أن الأصل عند الحنفية أن المجني عليه إنما يستحق إبانة عضو الجاني مرّة واحدة , وليس من حقه أن يبقي العضو فائتاً على الدوام , فالظاهر أن مذهبهم مثل مذهب الشافعية في هذه المسألة وذلك لأمور:
(1) إنهم أجازوا بقاء الثنية النابتة بنفسها , ولم يروها معارضة لمقتضى القصاص , مع أنها أحكم وأثبت من السنّ الملصقة , وأكثر منها نفعاً , فالظاهر أن السنّ المزروعة أولى أن لا تكون معارضة لمقتضى القصاص.
(2) قد ذكرنا في المسألة الأولى أن المجني عليه إذا أعاد عضوه إلى محله , فإن ذلك لا يؤثر في ما ثبت على الجاني من القصاص والأرش , بل يجب القصاص كما كان يجب عند عدم الزرع. فيقاس على ذلك زرع الجاني عضوه , وأنه لا يؤثر في ما استوفى من قصاص. وإلا فليس من الإنصاف أن يزرع المجني عليه عضوه. ويمنع الجاني من ذلك بتاتاً.
فالراجح عندي مذهب الشافعية وجماعة من الحنابلة وهو مقتضى مذهب الحنفية , أن القصاص يحصل بإبانة العضو مرّة واحدة , ولكل واحد من الفريقين الحرية في إعادة عضوه بعملية طبية إذا شاء. فلو فعل ذلك الجاني , ولم يفعله المجني عليه , فإن ذلك مبني على أن كل واحد يتصرف في جسمه بما يشاء , ولا يقال إن عمل الجاني مخالف لمقتضى القصاص , كما إذا أعاده المجني عليه , ولم يعده الجاني , فإن ذلك لا يؤثر في أمر القصاص , وكل واحد يختار في معالجة ضرر جسمه ما يتيسر له , ولا سبيل إلى إحداث المساواة بين الناس في علاج أجسامهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المسألة الثالثة: هل العضو المزروع في المسألتين نجس؟
كل ما قدمنا كان يتعلق بمسألة القصاص , وإنما نظرنا إلى الآن في مسألة زراعة العضو المقطوع من حيث أنه يعارض مقتضى الحكم بالقصاص أو لا؟ وقد رجحنا مذهب جمهور الفقهاء أن الزراعة لا تؤثر في أمر القصاص شيئاً , فما كان ثابتاً قبل الزراعة , يبقى ثابتاً بعدها , وما استوفى قبلها , لا يحكم بإعادته بعدها.
وننتقل الآن إلى مسألة أخرى , وهي: هل يجوز للمجني عليه أو الجاني ديانة أن يعيد عضوهما المبان إلى محلّه؟ وهل يعتبر ذلك العضو طاهراً أم نجساً؟ وهل تجوز الصلاة معه أو لا يجوز؟
وإنما نشأت هذه المسألة , لأن الفقهاء قد اختلفوا في العضو المبان من الحي , هل هو طاهر أم نجس؟ فذهبت جماعة إلى أن كل ما أبين من الحيّ فهو نجس على الإطلاق , استدلالاً بقوله عليه السلام (ما قطع من حي فهو ميت) ().
¥