ولقد صدق رحمه الله في كل ما ذكره، فأنت ترى أن هذه الأحاديث المحرمة لا تتعارض مطلقاً مع حديث حل الذهب للنساء، لأنه عام، وتلك خاصة، والخاص مقدم على العام كما هو مقرر في علم الأصول، ولهذه القاعدة رجح الإمام النووي رضي الله عنه في ((شرح مسلم)) و ((المجموع)) وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل، مع أنه مخالف لمذهبه، بل ومذهب الجمهور، حتى ظن بعض المتعالمين في هذا العصر أنه لا يقول بالوضوء منه عالم من علماء المسلمين! كما نشر ذلك في
[178]
بعض الجرائد الدمشقية سنة 1386هـ تقريباً.
ولِما ذكرنا قال ولي الله الدهلوي في ((حجة الله البالغة)) (2/ 190) بعد أن ذكر أحاديث التحريم وحديث الحل:
((معناه الحل في الجملة، وهذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحاديث، ولم أجد لها معارضاً)).
وأقره صديق حسن خان في ((الروضة الندية)) (2/ 217 - 218).
قلت: ومما يدلك على ضعف دعوى النسخ هذه؛ أن بعض متعصبة الحنفية- وقد سبقت الإشارة إليه- لم ينظر إليها بعين الرضا، مع أنه حكاها عن الجمهور الذين يقلدهم في هذه المسألة، واحتج على ذلك بقوله- وقد وفق فيه-:
((إن النسخ لا يُلجأ إلى القول به ما دام التوفيق بين الأحاديث ممكناً، بحيث لا يرد شيء من الأدلة))، وهذا حق لا ريب فيه، وهو من المقرر في علم الأصول.
ولكنه مع الأسف لم يستقر عليه الدكتور، بل رجع
[179]
إلى ادعاء النسخ معارضاً بذلك الأخذ بأحاديث التحريم، فقال:
((إن الفريقين لما تجاذبا دعوى النسخ احتجنا إلى النظر في التاريخ للترجيح بين المذهبين، وتعيين الناسخ والمنسوخ، والتاريخ يؤيد نظر الجمهور (!).
فإنه لا شك في أن الصحابة في ابتداء الإسلام كانوا في أمس الحاجة للمال ... ولقد قسم الأنصار أموالهم مناصفة بينهم وبين المهاجرين، فكان التختم بالذهب في تلك الفترة بطراً وترفاً، فلما مضت الأيام، وفتحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتوحات صار الناس في رخاء العيش فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لبس الذهب لزوال المانع))!
قلت: وجوابي عليه من وجوه:
الأول: أنه لم يذكر نصاً تاريخياً يؤيد تأخر المبيح عن الحاظر، يرجح به نظر الجمهور، وإنما هو مجرد الدعوى أن الإباحة كانت بعد رخاء العيش، فأين الدليل عليها؟!
[180]
الثاني: هذه الدعوى لو صحت، لزم منها أن يكون تحريم الذهب على الرجال قد شرع في الوقت الذي حرم على النساء، إن لم يكن تقدم عليه، وكل عاقل يفهم من قوله: ((في ابتداء الإسلام))، أنه يعني في مكة، أو في أول الهجرة على أبعد تقدير، وإذا كان كذلك، فنحن نقطع ببطلان هذه الدعوى؛ لأن تحريم الذهب على الرجال إنما كان في أواخر الأمر، كما نص على ذلك الحافظ الذهبي في ((تلخيص المستدرك)) (3/ 231)، ومما يشهد له ما أخرجه البخاري في ((اللباس)) وأحمد في ((المسند)) (4/ 328) عن المسور بن مخرمة:
((أن أباه مخرمة قال له: يا بني! إنه بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه أقبية، فهو يقسمها، فاذهب بنا إليه، فذهبنا إليه ... فخرج وعليه قباء من الديباج مزرر بالذهب، فقال: يا مخرمة هذا خبأته لك، فأعطاه إياه)).
وإنما أسلم مخرمة عام الفتح، وذلك بعد ثمان سنين ونصف من الهجرة، فهذا نص على أن الذهب كان مباحاً إلى ما قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنة ونصف تقريباً، ولولا ذلك لم يلبس صلى الله عليه وسلم القباء المزرر بالذهب، ولا وزعه على أصحابه كما هو ظاهر.
[181]
الثالث: أنه لو صح قوله: ((فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لبس الذهب لزوال المانع))، لزم منه إباحة الذهب للرجال أيضاً لزوال المانع أيضاً! وهذا باطل لا يقوله عالم، وما لزم منه باطل؛ فهو باطل.
فإن قال: هذا غير لازم، لأن علة تحريم الذهب على الرجال، غير علة تحريمه على النساء.
قلنا: ما هيه؟ ولا سبيل له إلى إثباتها أبداً، إلا بمثل هذه الدعوى التي أثبت بها أختها! وليست هي إلا مجرد رأي تفرد به الدكتور في آخر الزمان!
وما يُلجئ بعض الناس إلى مثل هذه المضايق والآراء، إلا محاولتهم التخلص من معارضة النص الشرعي لمخالفته لمذهبهم، وتقليدهم، وعاداتهم، فيقعون فيما هو أعظم منه! ولو أنهم استسلموا لحكم الله ورسوله- كما هو المفروض في المسلم- لكان خيراً لهم، ولم يقعوا في مثل ذلك.
[182]
¥