ثم بعد ذلك لما جاءت الزيادة في المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبد الملك، وكان أمير المدينة يوم ذاك عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وأخذوا شيئا من حُجَر زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، بقيت حجرة النبي عليه الصلاة والسلام كذلك، فأخذوا من الروضة -روضة المسجد- أخذوا منها شيئا وجعلوا عليه بناء، فبنوه من ثلاث جهات، جدار آخر غير الجدار الأول، بنوه من ثلاث جهات، وجعلوا الجهة التي تكون شمالا -يعني من جهة الشمال- جعلوها مسنمة؛ جعلوها مثلثة قائمة هكذا، وصار عندنا الآن جداران:
الجدار الأول مغلق تماما، وهو جدار حجرة عائشة.
والجدار الثاني الذي عُمِل في زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه في زمن الوليد بن عبد الملك، جعلوا جهة الشمال -وهي عكس جهة القبلة- جعلوها مسنمة؛ لأنه في تلك الجهة جاءت التوسعة وسعوها من جهة الشمال، فخشوا أن يكون ذلك الجدار مربعا يعني مسامتا للمستقبِل؛ فيكون إذا استقبله أحد استقبال للقبر، فجعلوه مثلثا يبعد كثيرا عن الجدار الأول وهو جدار حجرة عائشة؛ لأجل أن لا يمكن أحد أن يستقبل لبعد المسافة؛ ولأجل أن الجدار صار مثلثا.
ثم بعد ذلك بأزمان جاء جدار ثالث أيضا وبُني حول ذينك الجدارين، وهو الذي قال فيه ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية في وصف دعاء النبي r في قوله «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» قال:
وأحاطه بثلاثة الجدران فأجاب رب العالمين دعاءه
في عزة وحماية وصيان حتى غدت أرجاؤه بدعائه
فالنبي عليه الصلاة والسلام صار قبره في ثلاثة جدران، وكل جدار ليس فيه باب، ولا يمكن لأحد حتى في زمن الصحابة أن -يعني في زمن المتأخرين منهم في عهد الوليد وما قبله- لا يمكن أن يدخل ويقف على القبر بنفسه؛ لأنه صار ثَم جداران وكل جدار ليس له باب.
ثم بعد ذلك وضع الجدار الثالث وهذا الجدار أيضا كبير مرتفع إلى فوق، وُضعت عليه القبة فيما بعد، وهذا الجدار أيضا ليس له باب.
فلا يستطيع الآن أحد أن يدخل إلى القبر أو أن يصل القبر أو أن يتمسح بالقبر أو أن يرى قبر النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد ذلك وضع السور الحديدي هذا، وهذا السور الحديدي بينه وبين الجدار الثالث -الذي ذكرتُ لكم- بينه نحو متر ونصف في بعض المناطق ونحو متر في بعضها وبعضها نحو متر وثمانين إلى مترين في بعضها، يضيق ويزداد؛ لكن من مشى فإنه يمشي بين ذلك الجدار الحديدي وذلك الجدار الثالث.
فقبر النبي عليه الصلاة والسلام، عمل المسلمون بوصيته عليه الصلاة والسلام، وأُبعد تماما فلا يمكن أن يصل أحد إلى القبر، ولا يمكن أيضا أن يُتخذ ذلك القبر مسجدا.
ولهذا لمّا جاء الخرافيون في الدولة العثمانية جعلوا التوسعة التي هي من جهة الشرق جعلوا فيها ممر لكي يمكن من يريد أن يطوف بالقبر أو أن يصلي في تلك الجهة، ذلك الممر الشرقي -الذي هو قدر مترين أو نحو ذلك أو يزيد قليلا-، ذلك الممر الشرقي في عهد الدولة السعودية الأولى وما بعدها مُنع من الصلاة فيه، فكأنه أُخرج من كونه مسجدا؛ لأنه إذا كان من مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز أن يمنعوا أحدا من الصلاة فيه، فلما منعوا أحدا من الصلاة فيه جعلوا له حكم المقبرة ولم يجعلوا له حكم المسجد، فلا يمكن لأحد أن يصلي فيه بل يغلقونه وقت الصلاة أمّا وقت السلام أو وقت الزيارة فإنهم يفتحونه للمرور.
فإذن تبين بذلك أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام لم يُتخذ مسجدا، وإنما دخلت الغرف في التوسعة في عهد التابعين في المسجد؛ ولكن جهتُها الشرقية خارجة عن المسجد فصارت كالشيء الذي دخل في المسجد؛ ولكن حيطان متعددة تمنع أن يكون القبر في داخل مسجد النبي r، وإنما أربع جدارات تفصل بين المسجد وبين قبر النبي r يعني مكان الدفن.
وأعظم من ذلك مما يدل على أخذ الصحابة والتابعين ومن بعدهم بوصية النبي r هذه، وسد الطرق الموصلة إلى الشرك به عليه الصلاة والسلام، وباتخاذ قبره مسجدا: أنهم أخذوا من الروضة الشريفة أخذوا من الروضة التي هي روضة من رياض الجنة كما قال عليه الصلاة والسلام «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» أخذوا منها قدر ثلاثة أمتار لكي يقوم الجدار الثاني ثم يقوم الجدار الثالث ثم يقوم السور الحديدي وأكثر من ثلاثة أمتار، فهذا من أعظم التطبيب وهو أنهم أخذوا من الروضة وأجازوا أن يأخذوا من المسجد لأجل أن يحمى قبر النبي عليه الصلاة والسلام من أن يتخذ مسجدا.
وهذا ولا شك من أعظم الفقه فيمن فعل ذلك، ومن رحمة الله جل وعلا في هذه الأمة، ومن إجابة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سيأتي بعد هذا الباب «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد».
إذن فقوله عليه الصلاة والسلام («لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذّرُ مَا صَنَعُوا) فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتَّخذ قبره مسجدا.
واليوم الموجود قد يكون صورته عند غير المتأمل وغير الفقيه صورته صورة قبر في داخل مسجد، وفي الحقيقة ليست صورته وليست حقيقته قبر في داخل المسجد؛ لوجود الجدران المختلفة التي تفصل بين المسجد وبين القبر؛ ولأن الجهة الشرقية منه ليست من المسجد، وهذا لمّا جاءت التوسعة الأخيرة كان مبتدؤها من جهة الشمال بعد نهاية الحجرة بكثير حتى لا تكون الحجرة في وسط المسجد من جهة أنه يكون ثمة توسعة من جهة الشرق وثم الروضة من جهة الغرب فتكون وسط المسجد فيكون ذلك من اتخاذ قبره مسجدا عليه الصلاة والسلام.
المقصود من هذا البيان المهم -الذي ينبغي أن تعيه جيدا- أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام ما أتخذ مسجدا ولكن وصيته عليه الصلاة والسلام من التحذير قد أتخذ بها في مسجده وفي قبره؛ ولكن خالفتها الأمة في قبور الصالحين من هذه الأمة فاتخذوا قبور بعض آل البيت مساجد وعظموها كما تُعظم الأوثان.
¥