فاجتهدا في طلبه، واسنعذبا التعب في حفظه، والسهر في درسه، والنصب الطويل في جمعه، وواظبا على تقييده وروايته، ثم انتقلا إلى فهمه ودرايته0
وانظرا أيّ حالة من أحوال طبقات الناس تختاران، ومنزلة أيّ صنف منهم تؤثران0 هل تريان أحدا أرفع حالا من العلماء، وأفضل منزلة من الفقهاء؟ يحتاج إليهم الرئيس والمرؤوس، ويقتدي بهم الوضيع والنفيس، يرجع إلى أقوالهم في أمور الدنيا وأحكامها، وصحة عقودها وبياعاتها، وغير ذلك من تصرّفاتها، وإليهم يلجأ في أمور الدين وما يلزم من صلاة وزكاة وصيام وحلال وحرام0 ثم مع ذلك السلامة من التبعات، والخطوة عند جميع الطبقات0
000 وأفضل العلوم علم الشريعة، وأفضل ذلك لمن وفّق أن يجوّد قراءة القرآن، ويحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم0 ويعرف صحيحه من سقيمه، ثم يقرأ أصول الفقه، فيتفقّه في الكتاب والسنّة، ثم يقرأ كلام الفقهاء، وما نقل من المسائل عن العلماء، ويدرب في طرق النظر وتصحيح الأدلة والحجج، فهذه الغاية القصوى، والدرجة العليا)) 0
وقال أيضا-رحمه الله تعالى-: (وأيّاكما وقراءة شيء من المنطق وكلام الفلافسة؛ فإن ذلك مبنيّ على الكفر والإلحاد، والبعد عن الشريعة والإبعاد0
وأحذّركما من قراءتها ما لم تقرآ من كلام العلماء ما تقويان به على فهم فساده وضعف شبهه وقلّة تحقيقه، مخافة أن يسبق إلى قلب أحدكما ما لا يكون عنده من العلم ما يقوى به على ردّه، ولذلك أنكر جماعة من العلماء المتقدمين والمتأخرين قراءة كلامهم لمن لم يكن من أهل المنزلة والمعرفة به؛ خوفا عليهم مما خوفتكما منه0
ولو كنت أعلم أنكما تبلغان منزلة الميز والمعرفة، والقوّة على النظر والمقدرة، لحضضتكما على قراءته، وأمرتكما بمطالعته، لتحققا ضعفه وضعف المعتقد له، وركاكة المغتر به، وأنه من أقبح المخاريق والتمويهات، ووجوه الحيل والخزبعلات التي يغتر بها من لا يعرفها، ويستعظمها من لا يميزها0
ولذلك إذا حقق من يعلم عند أحد منهم وجده عاريا من العلم، بعيدا عنه، يدّعي أنّه يكتم علمه، وإنما يكتم جهله، وهو ينمّ عليه، ويروم أن يستعين به، وهو يعين عليه0
وقد رأيت ببغداد وغيرها من يدّعي منهم هذا الشأن مستحقرا مستهجنا مستضعفا، لا يناظره إلا المبتدئ وكفاك بعلم صاحبه في الدنيا مرموق مهجور، وفي الآخرة مدحور مثبور0 وأما من يتعاطى ذلك من أهل بلدنا، فليس عنده منه إلاّ اسمه، ولا وصل إليه إلاّ ذكره0
وعليكما بالأمر بالمعروف وكونا من أهله، وانهيا عن المنكر واجتنبا فعله0
وأطيعا من ولاه الله أمركما، ما لم تدعيا إلى معصية، فيجب أن تمتنعا منها، وتبذلا الطاعة فيما سواها)) 0
3 - لفتة الكبد في نصيحة الولد للإمام ابن الجوزي0
قال الإمام ابن الجوزي في مقدمة كتابه بعد أن حمد الله وأثنى عليه0 قال: ((أما بعد0
ف‘ني لما عرفت شرف النكاح وطلب الأولاد ختمت ختمة وسألت الله تعالى أن يرزقني عشرة أولاد، فرزقنينيهم، فكانوا خمسة ذكور وخمس إناث، فمات من الإناث اثنتان، ومن الذكور أربعة فلم يبقى من الذكور سوى ولدي أبي القاسم فسألت الله تعالى أن يجعل فيه الخلف الصالح، وأن يبلغ به المنى المناجح0
ثم رأيت منه نوع توان عن الجد في طلب العلم، فكتبت له هذه الرسالة، أحثّه بها وأحركه على سلوك طريقي في كسب العلم، وأدلّه على الإلتجاء إلى الموفق- سبحانه وتعالى – مع علمي بأنه لا خاذل لمن وفّق، ولا مرشد لمن أضل، لكن قد قال تعالى: ((وتواصوا بالحقّ وتواصو بالصّبر)) وقال: ((فذكّر إن نفعت الذّكرى)) ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم)) 0
وقال –رحمه الله تعالى – في موضع آخر من الكتاب: ((وانظر يا بنيّ! إلى نفسك عند الحدود فتلمّح كيف حفظك لها، فإنه من راعى روعي، ومن أهمل ترك0
وإني لأذكر لك بعض أحوالي لعلك تنظر إلى اجتهادي وتسأل الموفق لي فإن أكثر الإنعام علي لم يكن بكسبي، وإنما هو من تدبير اللطيف بي0 فإني أذكر نفسي ولي همّة عالية وأنا في المكتب ابن ست سنين وأنا قرين الصبيان الكبار، قد رزقت عقلا وافرا في الصغر يزيد على عقل الشيوخ، فما أذكر أني لعبت في الطريق مع الصبيان قط ولا ضحكت ضحكا خارجا0 حتى أني كنت ولي سبع سنين أو نحوها أحضر رحبة الجامع فلا أتخير حلقة مشعبة، بل أطلب المحدث فيتحدّث باليسير، فأحفظ جميع ما أسمعه وأذهب إلى البيت فأكتبه0
¥