لقد وَصَفَ اللهُ الودودُ الرحيمُ عبادَه المؤمنين في محكم التنزيل بالشفقة والرحمة في تعاملهم فيما بينهم، كحال قدوتهم وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى في وصف رسول الله: {بالمؤمنين رءوف رحيم}، وقال في نعته ونعت متبعيه: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}.
قال ابن جرير عن معنى {أذلة عليهم}: أرقاء عليهم، رحماء بينهم، من قول القائل: ذل لفلان إذا خضع له واستكان. ثم ساق بسنده عن علي رضي الله عنه: أهل رقة على أهل دينهم ". وقال ابن عطية: "معناه متذللين من قِبَلِ أنفسهم غير متكبرين كقوله عليه الصلاة والسلام: " المؤمن هَيِّنٌ لَيِّنٌ " ".
وليس المعنى هنا من الذل والهوان لأن ذلك ليس من صفة أولياء الله، ألا تقرأ الحديث الوارد في دعاء الوتر: " ولا يذل من واليت "، وحديث: " ما ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه "، قال السمعاني: " ليس من الذل، وإنما هو من الذلة وهي اللين ". وقال البغوي: " يعني أرقاء رحماء كقوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} ولم يرد به الهوان، بل أراد به أن جانِبَهم لَيِّنٌ على المؤمنين".
وقال السمين الحلبي: " أذلة جمع ذليل بمعنى متعطف، ولا يُراد به الذليل الذي هو ضعيف خاضع مهان، ولا يجوز أن يكون جمع (ذَلُول) لأن ذلولاً يجمع على (ذُلُل) لا على (أذلة) وبه قال الزمخشري، والمعنى عاطفين على المؤمنين على وجه التذلُل لهم والتواضع، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم مع شرفهم وعلوِّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ووقع الوصف في جانب التواضع للمؤمنين والغلظة على الكافرين بالاسم الدال على المبالغة دلالةً على ثبوت ذلك واستقراره وأنه عزيزٌ فيهم، والاسم يدل على الثبوت والاستقرار، وقدم وصفهم المتعلق بالمؤمنين على وصفهم المتعلق بالكافرين لأنه آكد وألزم منه، ولشرف المؤمن أيضاً ". أهـ
والمعنيان الذان ذكرها الحلبي واقعان في صفة المؤمنين لاختلاف طبقات معيشتهم، ولذا استعمله بحرف الاستعلاء (على) بدلاً من اللام، إشارة لحقيقة وضعهم العزيز، ولتضمنه معنى العطف والحنو، أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم.
* * *
وإن لهذه الصفةِ مظاهرَ عديدةً منها محبة المؤمن وموالاته، والشفقة عليه، والألفة والإخاء والتواضع فيما بينهم، والإيثار، وسلامة الصدور، والذب عنهم، والعطف على الصغير، واحترام وتقدير الكبير وذي الشيبة، وإنزال الناس منازلهم، والصدق في التعامل، ومنها حقوق المسلم على أخيه، وغيرها كثير.
قال ابن كثير عن هذه الصفة: " هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه وعدوه، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم " الضحوك القتال " فهو ضحوك لأوليائه قَتّال لأعدائه ".
ولم يقتصر المولى عز في علاه على صفة الذلة على المؤمنين لأنه ربما توهم البعض أن ذلك لضعفهم وهذا خلاف المقصود فأتى على سبيل التكميل بصفة العزة على الكافرين وهي شقيقتها وهي التالية.
* * *
الصفة الرابعة / العزة: {أعزة على الكافرين}
وفي مقابل الصفة السابقة، يقابلون أعداءهم الكفار بالعزة والغلظة، معتزين بدينهم، مترفعين بإيمانهم، لا خضوع ولا خنوع لأعداء الدين، أنوفهم في السماء مستشعرين قول العزيز الكبير {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وقول عمر بن الخطاب: " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله "، محتسبين أجرهم عند الله، باحثين عن رضا ربهم قال السعدي: فالغلظة والشدة على أعداء الله تقرِّب العبد إلى الله ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم. إذن نِعْمَ العبادة تلك التي يوافق فيها العبدُ ربَه ومولاه.
قال ابن جرير: أشداء على الكافرين، غُلَظَاء بهم، من قول القائل: إذا أظهر العزة من نفسه، وأبدى له الجفوة والغلظة، - ثم ساق بسنده – عن علي رضي الله عنه قال: أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال البغوي: أشداء على الكفار يُعادونهم ويغالبونهم، من قولهم: عَزَّه أي غلبه، قال عطاء: أعزة على الكافرين كالسبع على فريسته. أهـ
* * *
¥