[مع أغلى كتاب]
ـ[د. محمد ناجي مشرح]ــــــــ[06 - 01 - 04, 07:03 م]ـ
المشهد الخامس العودة الخائبة والنبأ الفاجع:
هذا المشهد يتضمن عودة الأخوة بدون يوسف والنبأ المروع لأبيهم وما صاحب ذلك من أكاذيب وأعذار واهية وما كان فيه من مواقف من قبل يعقوب عليه السلام. وقد سبق ذلك فجوة أو قنطرة مستنتجة من المشهد وهو: ماذا كان يفكر فيه يعقوب عليه السلام طيلة ذلك الوقت الذي غاب عنه يوسف عليه السلام مع أخوته؟
وقدكان لا يقدر على فراقه لحظة واحدة. بالإضافة إلى ما كان في نفسه من تخوف على يوسف من أخوته منذ أن عبر له الرؤيا وحذره أن لا يخبرهم بها؛ فهل كان يعقوب قلقا يتوقع أن يحدث ليوسف مكروه؟ أم أنه نسي الموضوع تماما؟ أو أنه لم يكن يتوقع أن يصل بأبنائه الأمر إلى العمل على ترويع أبيهم والإساءة إلى أخيهم الصغير؟ كل ذلك لم تسجله النصوص إلا ما كان قد دار بينه وبينهم حين راودوه حيث أبدى تخوفه على يوسف من الذئب وقدطمأنوه أنه لايمكن أن يحدث هذا! فما قيمة كثرتهم إذا؟
وتسجل الآيات الكريمات المشهد منذ أن تركوا يوسف عليه السلام وحيدا يتجرع آلآما كثيرة. وأُسدل الستار عليه وفُتح للمشاهدين يلحظون أخوته وقد قفلوا راجعين يجرون أذيال الخيانة وكأنهم الجيش المنتصر على العدو الذي طالما حلموا بالنصر عليه وكأني بهم يتشاورون ويعقدون المؤتمرات في الطريق ليحبكوا العذر لأبيهم ويدرسونه من جميع النواحي حتى لاينفضح أمرهم ويسوقون الأدلة معكوسة تدينهم. ولكن أنى لهم أن يتقنوا ويوفقوا إلى ذلك والله تعالى ليس راض عن تصرفاتهم، ويواصلون المسير والنظارة وجلون كلما اقتربوا من أبيهم ازداد وجلهم على يعقوب؛وكيف سيستقبل المفاجأة! والفاجعة الأليمة! واخيرا ها قد وصلوا يحملون قميص يوسف عليه السلام ملطخا بالدماء، ويتباكون بكاء تتساقط من أعينهم دموع التماسيح؛ تكذبهم كل الأدلة التي حملوها لتحميل الذئب الجريمة النكراء، ويستقبل يعقوب عليه السلام الفاجعة استقبال المؤمن بقضاء الله وقدره،ويدحض حججهم في الحال بهدوء ونفس راضية قال تعالى مصورا هذا المشهد {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} () هكذا تصور النصوص ذلك المشهد المهيب الذي يقطع نياط القلب، ويدعو إلى كره هذا الفعل الشنيع؛ الذي لم يقف عند حد؛ ينتهي وقد طبع في أذهان النظارة عددا من الركائز التربوية المهمة في حياة كل فرد في أي عصر كان وفي أي مكان كان يقطن.
أفياء من المشهد
1 - الحذر من السير في الطريق الذي لايحبه الله تعالى فإن السائر في ذلك الطريق يضل يسير في التيه الذي يطوح به إلى المهالك التي لا حدود لها في الدنيا وفي الأخرى وهو يظن أنه يحسن صنعا.ويضل الشيطان يقوده من مصيبة إلى مصيبة أكبر منها،ويزينها له حتى تتبين له أنه لا طريق أجود منها وأنه لا أحد أفضل عمل منه إلى أن يورده أخر المهالك "النار " عياذا بالله تعالى. والله تعالى يحذر من هذا المزلق المهلك فيقول تعالى {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (182} () {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (44} ()
فالسير في الاتجاه المعاكس لمنهج الله تعالى يوصل إلى النتيجة التي قررتها النصوص الآ نفة الذكر وغيرها؛ فإن الله تعالى يستدرج مثل هؤلاء الذين تنكبوا الطريق الصحيح بعلم وهم يرون أنهم مخطئون؛ ينتهي بهم ذلك إلى الاستدراج من الله تعالى و التزيين من الشيطان.ولقد سار أخوة يوسف في مكرهم ذلك في الطريق العكسي لمنهج الله تعالى مع أنهم تربوا في بيت النبوة فاستُدرجوا إلى العمل السيء وزين لهم الشيطان هذا العمل حتى ظنوه طريقا إلى الصلاح!
2 - أن الإ نسان بدون توفيق الله تعالى في شقاء دائم ومن أجل ذلك فإن الله تعالى يذكر عباده المؤمنين بدوام الاستعانة به تعالى في كل يوم ما لا يقل عن سبع عشرة مرة في الصلوات المكتوبات {إياك نستعين} لئلا ينسوا ذلك وبالتالي فإن الذين يعتمدون على قوتهم ومكرهم وا حتيالهم لايفلحون؛بل يكلهم الله تعالى إلى أنفسهم ومن وكله الله تعالى إلى نفسه أو إلى غيره سوى الله تعالى هلك.
3 - الحذر من السير مع الآخرين بدون بصيرة فإن التقليد الذي يكون غير مبصر يضل صاحبه كالأعمى يقاد ولا يدري إلى أين يقاد حتى ولو قيد إلى الهاوية فإنه لا ينتبه إلا بعد فوات الأوان فيندم ولات ساعة مندم. وكذلك الحذر من محاكاة الآخرين على الخطأ بعلم مهما كانت الاستفادة منه كبيرة له فإن الخطأ لايمكن أن يولد صوابا؛ بل يولد خطأ أكبر منه ويورث في القلب آهآت وجراحات لاتنتهي الا أن يتقطع وبخاصة إذا كان الخطأ كبيرا كالقتل أو ما هو قريب منه.
ولا ريب أن أخوة يوسف ليسوا على مستوى واحد من الإ صرار على الإضرار بيوسف لقد كان لأخبهم الكبير موقف يشكر عليه وقد كان بالإمكان أن يكون له دور أكبر مما وقع منه فيعرقل تنفيذ الكيد الذي توصلوا إليه وبهذا يكسب الجميل عند الله وعند خلقه. وهذا الموقف هو من المواقف التي يؤديها أولو الشكيمة من الرجال الكمل؛الذين يقولون الحق ولو كان مرا، ويسدون باب الشر مهما كانت القيمة باهضة.