وأخيراً: أهمس إليك- يا ابنتي- بكلمة لابد منها بعد أن خبرت الذئب وفعاله، أقول لك: أنت الآن صبية جميلة، وأنت إلى الخامسة والعشرين تطلبين وبعد ذلك تطلبين فإن طرق داركم من ترضين دينه وخلقه، فلا تترددي في قبوله ولا تتمنعي ولا تسوفي، فإن الجمال والصبا لا يدومان، فإما المرض، وإما القبر، نعم القبر الذي لابد لكل حي منه، القبر، يا ابنتي الذي يفد إليه كل يوم وفود البشر محمولين على أيدي آبائهم وأمهاتهم وأحبابهم، ليقدموهم بأنفسهم هدايا ثمينة إلى الدود، تم يخلون بينهم وبينه يأكل لحومهم ويمتص دماءهم ويتخذ من أحداق عيونهم، ومباسم ثغورهم مراتع يرتع فيها كما يشاء بلا رقبى ولا حذر من حيث لا يملك مالك، عن نفسه دفعا، ولا يعرف إلى النجاة سبيلا، نعم يا ابنتي.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب ... إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها ... لعل الردي فيما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الفضا ... وفي علمنا أنا نموت وتخرب
الموت- يا ابنتي- يقتحمك بلا موعد ويدخل بلا استئذان: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) لقمان: 34 فرب فتاة كانت فتنة القلب وبهجة النظر، تفيض بالجمال وتنثر السحر والفتون، جاءت عليها لحظة، فإذا هي قد آلت إلى النتن والبلي، ورتع الدود في هذا الجسد البض، وأكل ذلك الثغر الجميل، فهل تظنينه عنك ببعيد؟ يحكي الهاشمي في جواهر الأدب أن عائشة التيمورية الشاعرة الأديبة كانت لها بنت ربيت في بيت العز والدلال، قد جمع الله لها جمال الخفق وسمو الخلق، فياضة الأنوثة، ساحرة الطرف، بليغة النطق، مهذبة الحواشي، ما رآها أحد إلا أحبها، وفجأة أصابها مرض مفاجىء فما لبثت أن ماتت وهي بنت ثماني عشرة سنة، وروعت الصدمة كل من شاهدها وعرفها، وذهلت أمها ورثتها بقصائد تبكي الصخر وتحرك الجماد، لعلك تريدين أن تقفي على شيء منها، هاكه فتجلدي:
لبست ثياب السقم في صغر وقد ... ذاقت شراب الموت وهو مرير
جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا ... إن الطبيب بطبه مغرور
وصف التجرع وهو يزعم أنه ... بالبرء من كل السقام بشير
فتنفست للحزن قائلة له ... عجل ببرئي حيث أنت خبير
وارحم شبابي إن والدتي غدت ... ثكلى يشير لها الجوى وتشير
لما رأت يأس الطبيب وعجزه ... قالت ودمع المقلتين غزير
أماه قد كل الطبيب وفاتني ... مما أؤمل في الحياة نصير
أماه قد عز اللقاء وفي غد ... سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي ... هو منزلي وله الجموع تصير
قولي لرب اللحد رفقا بابنتي ... جاءت عروساً ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهة ... فتراك روح راعها المقدور
أماه قد سلفت لنا أمنية ... يا حسنها لو ساقها التيسير
كانت كأحلام مضت وتخلفت ... مذ بان يوم البين وهو عسير
جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا ... لبس السواد ونفذ المسطور
أماه لا تنسي بحق بنوتي ... قبري لئلا يحزن المقبور
وهاكي جواب الأم:
بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي ... قد زال صفو شأنه التكدير
لا توصي ثكلي قد أذاب فؤادها ... حزن عليك وحسرة وزفير
وبقبلتي ثغراً تقضي نحبه ... فحرمت طيب شذاه وهو عطير
والله لا أسلو التلاوة والدعا ... ما غردت فوق الغصون طيور
كلا ولا أنسى زفير توجعي ... والقد منك لدي الثرى مدثور
إني ألفت الحزن حتى أنني ... لو غاب عني ساءني التأخير
قد كنت لا أرضى التباعد برهة ... كيف التصبر والبعاد دهور
أبكيك حتى نلتقي في جنة ... برياض خلد زينتها الحور
فبادري يا ابنتي بالتوبة وامتثلي لأوامر الله عز وجل وغضي البصر عن النظر المحرم طاعة لقول ربك عز وجل: ((وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ
¥