وفيه أيضاً عن النبي) قال: "أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه، نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة، فإذا مضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه نزلت خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له، وكان من لك خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه، فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته، وإن قعد قعد سالماً".
وفي المعنى أحاديث أخر، وفيما ذكرناه كفاية ولله الحمد والمنة. وقد وردت النصوص أيضاً بحصول الثواب على الوضوء، وهذا زيادة على تكفير السيئات به:
اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى
ابن رجب
الصفحة: 3
اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى
ابن رجب
الصفحة: 4
ففي صحيح مسلم عن عمر رضي الله عنه عن النبي) قال: " من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله"، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء".
وفيه أيضاً: عن أبي هريرة عن النبي): "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
وفيه أيضاً: عن أبي هريرة عن النبي) قال: "أنتم الغرّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء".
وخرجه البخاري، ولفظه: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجّلين من آثار الوضوء".
واعلم أن حديث معاذ بن جبل في المنام إنما فيه ذكر إسباغ الوضوء على الكريهات، وكذا في حديث أبي هريرة المبدوء بذكره في هذا الفصل، فها هنا أمران: أحدهما: إسباغ الوضوء، وهو إتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية كالثوب السابغ المُغطي للبدن كله، وفي مسند الزّار عن عثمان مرفوعاً: " من توضأ فأسبغ الوضوء غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". وإسناده لا بأس به، وأخرجه ابن عاصم من وجهٍ آخر عن عثمان.
وخرج النسائي وابن ماجة من حديث أبي مالك الأشعري عن النبي) قال: "إسباغ الوضوء شطر الإيمان"، وخرجه مسلم، ولفظه: "الطهور شطر الإيمان".
وثانيهما: أن يكون إسباغه على الكريهات، والمراد أن يكون على حالةٍ تكره النفس فيها الوضوء، وقد فسر بحال نزول المصائب فإن النفس حينئذ تطلب الجزع فالاشتغال عنه بالصبر والمبادرة إلى الوضوء والصلاة من علامة الإيمان كما قال عز وجل:) استعينوا بالصبر والصلاة وإنَّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين (وقال تعالى) يا أيُّها الذين آمنوا استعينوا بالصبرِ والصلاةِ إن الله مع الصابرين (، والوضوء مفتاح الصلاة، وقد يطفأ به حرارة القلب الناشئة عن ألم المصائب، كما يؤمر من غضب بإطفاء غضبه بالوضوء.
وفسرت الكريهات بالبرد الشديد، ويشهد له أن في بعض روايات حديث معاذ: " ... إسباغ الوضوء على السبرات"، والسبرة: شدة البرد، ولا ريب أن إسباغ الوضوء في شدة البرد يشق على النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفس ويشق عليها فإنه كفارة للذنوب وإن لم يكن للإنسان فيه صنع ولا تسبب كالمرض ونحوه كما دلت النصوص الكثيرة على ذلك.
وأما إن كان ناشئاً عن فعل هو طاعة لله فإنه يكتب لصاحبه به أجر، وترفع به درجاته كالألم الحاصل للمجاهد في سبيل الله تعالى، قال الله عز وجل:) ذلك بأنَّهم لا يُصيبُهُم ظَمأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سبيل الله ولا يَطئُون مَوطِئاً يَغيظُ الكُفّارَ ولا يَنالون من عدوٍّ نَيلاً إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ إنَّ الله لا يُضِيعُ أجرَ المحسنين (، وكذلك ألم الجوع والعطش الذي يحصل للصائم، فكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد. ويجب الصبر على الألم بذلك، فإن حصل به رضىً فذلك مقام خواص العارفين المحبين، وينشأ الرضى بذلك عن ملاحظة أمور: أحدها: تذكر فضل الوضوء من حطّه الخطايا، ورفعه للدرجات وحصول الغرّة والتحجيل به، وبلوغ الحلية في الجنة إلى حيث يبلغ، وهذا كما انكسر ظفر بعض الصالحات من عثرةٍ عثرتها فضحكت وقالت: أنساني حلاوة ثوابه مرارة وجعه. وقال بعض العارفين: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه في جميع الأحوال.
¥