وقد يطلق اسم المسكين ويراد به من استكان قلبه لله عز وجل، وانكسر له وتواضع لجلاله وكبريائه وعظمته وخشيته ومحبته ومهابته، وعلى هذا المعنى حمل بعضهم الحديث المروي عن النبي) أنه قال: "اللهم أحييني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين". خرجه الترمذي من حديث أنس، وخرجه ابن ماجة من حديث ابن عباس، وفي حمله على ذلك نظر لأن في تمام حديثيهما ما يدل على أن المراد به المساكين من المال، لأنه ذكر سبقهم الأغنياء إلى الجنة، مع أن في إسناد الحديثين ضعفاً.
وقد خير النبي) بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً، فأشار إليه جبريل أن تواضع. فقال: "بل عبداً رسولاً". وكان بعد ذلك لا يأكل متكئاً، ويقول: "آكل كما يأكل العبد. وأجلس كما يجلس العبد". قال الحسن: قال رسول الله): "فأعطاني الله لذلك أن جعلني شيد ولد آدم، وأول شافع، وأول مشفع، وأول من تنشق عنه الأرض". وصح عنه) أنه قال: "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله". فأشرف أسمائه: عبد الله، ولهذا سمي بهذا الاسم في القرآن في أفخر مقاماته، فلما حقق) عبوديته لربه حصلت له السيادة على جميع الخلق.
كان كثير من العارفين في مناجاته لربه: كفى بي فخراً أني لك عبد، وكفى بي شرفاً أنك لي رب. وكان بعضهم يقول: كلما ذكرت أنه ربي وأنا عبده حصل لي من السرور ما يصلح به بدني:
شرفُ النفوس دخولها في رقِّهم
والعبدُ يحوي الفخر بالمُتملِّك
وكان أبو زيد البسطامي ينشد:
يا ليتني صِرت شيئاً
من غير شيء أُعدُّ
أصبحت للكل مولى
لأنني لك عبدُ
فمن انكسر قلبه لله عز وجل واستكان وخشع وتواضع جبره الله عز وجل، ورفعه بقدر ذلك، وفي الأثر المشهور: أن الله عز وجل قال لموسى على نبينا وعليه السلام حين سأله: أين أجدك؟. قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم كل يوم باعاً ولولا ذلك لانهدموا. وروي عن عبد الله بن سلام أنه فسره، فقال: هم المنكسرة قلوبهم بحب الله عن حب غيره. وفي الحديث المشهور المرفوع: "إن الله تعالى إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له، فإذا تجلى لقلوب العارفين عظمة الله وجلاله وكبرياؤه اندكت قلوبهم من هيبته، وخشعت وانكسرت من محبته ومخافته".
شعر:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم
عليها تراب الذُّلِّ بين المقابر
فالمسكين في الحقيقة من استكان قلبه لربه وخشع من خشيته ومحبته، ولا يكون المسكين ممدوحاً بدون هذه الصفة، فإن من لم يخشع قلبه مع فقره وحاجته فهو جبار كتلك الأمة السوداء التي قال فيها النبي): "إنها جبارة". وهو إما عائل مستكبر أو فقير مختال، وكلاهما لا ينظر اله إليه يوم القيامة، فالمؤمن من يستكين قلبه لربه ويخشع له ويتواضع، ويظهر مسكنته وفاقته إليه في الشدة والرخاء، أما في حالة الرخاء فإظهار الشكر، وأما في حال الشدة فإظهار الذل والعبودية والفاقة والحاجة إلى كشف الضر، قال تعالى:) ولقد أخذناهُم بالعذابِ فما استكانوا لربِّهم وما يتضرَّعُون (المؤمنون: 76، فذم من لا يستكين لربه عند الشدة، وكان النبي) يخرج عند الاستسقاء متواضعاً متخشعاً متمسكناً. وحبس لمطرف بن عبد الله قريب له فلبس خلقان ثيابه، وأخذ بيده قصبة، وقال: أتمسكن لربي لعله يشفعني فيه.
اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى
ابن رجب
الصفحة: 20
اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى
ابن رجب
الصفحة: 21
ومما يشرع فيه التمسكن لله عز وجل حال الصلاة كما في حديث الفضل بن عباس عن النبي) قال: "الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، وتخشع، وتضرع، وتمسكن، وتقنع يديك يقول: ترفعهما، ويقول: يا رب ثلاثاً، فمن لم يفعل ذلك فهي خداج". خرجه الترمذي وغيره.
وكذلك يشرع إظهار المسكنة في الدعاء، وخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: رأيت النبي) يدعو بعرفة، ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين. ومن حديثه أيضاً أن النبي) قال في دعائه عشية عرفة: "أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليه ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير".
¥