والدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين جائز، وقد دعا به الصحابة والصالحون بعدهم، ولما حج عمر رضي الله عنه آخر حجة حجها استلقى بالأبطح ثم رفع يديه وقال: اللهم إنه قد كبرت سني، ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون. ثم رجع إلى المدينة فما انسلخ الشهر حتى قتل رضي الله عنه.
ودعا علي ربه أن يريحه من رعيته حيث سئم منهم فقتل عن قريب. ودعت زينب بنت جحش لما جاءها عطاء عمر من المال فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها. فماتت قبل العطاء الثاني. ولما ضجر عمر بن العزيز من رعيته حيث ثقل عليهم قيامه فيهم بالحق طلب من رجل كان معروفاً بإجابة الدعوة أن يدعو له بالموت، فدعا له ولنفسه بالموت فماتا. ودعي طائفة من السلف الصالح إلى ولاية القضاء، فاستمهلوا ثلاثة أيام فدعوا لأنفسهم بالموت فماتوا.
واطلع على حال بعض الصالحين ومعاملاته التي كانت سراً بينه وبين ربه، فدعا الله أن يقبضه إليه خوفاً من فتنة الاشتهار فمات. فإن الشهرة بالخير فتنة كما جاء في الحديث: "كفى بالمرء فتنة أن يشار إليه بالأصابع، فإنها فتنة".
وكان سفيان الثوري يتمنى الموت كثيراً فسئل عن ذلك، فقال: ما يدريني! لعلي أدخل في بدعة، لعلي أدخل فيما لا يحل لي، لعلي أدخل في فتنة، أكون قد مت فسبقت هذا.
واعلم أن الإنسان لا يخلو من فتنة، قال ابن مسعود: لا يقل أحدكم: أعوذ بالله من الفتن، ولكن ليقل: أعوذ بالله من مضلات الفتن. ثم تلا قوله تعالى:) إنّمآ أموالُكم وأولادكم فتنة (التغابن: 15. يشير إلى أنه لا يستعاذ من المال والولد وهما فتنة، وفي المسند أن النبي) أمر أم سلمة أن تقول: "اللهم رب محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أبقيتني".
وقد جعل النبي) النساء والأموال فتنة، ففي الصحيح عنه) قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". وفيه أيضاً أنه) قال: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".
اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى
ابن رجب
الصفحة: 22
اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى
ابن رجب
الصفحة: 23
وفي صحيح مسلم عنه) قال: "اتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". وفي الترمذي أنه) قال: "لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال". وقد قال الله عز وجل:) وجعلنا بعضَكم لبعض فتنةً أتصبرون وكان ربُّك بصيراً (الفرقان: 20، فالرجل فتنة للمرأة، والمرأة فتنة للرجل، والغني فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني، والفاجر فتنة للبر، والبر فتنة للفاجر، والكافر فتنة للمؤمن، والمؤمن فتنة للكافر كما قال تعالى:) وكذلك فَتَنّا بعضَهم ببعضٍ ليقولوآ منَّ الله عليهم من بيننا أليسَ الله بأعلمِ بالشاكرين (الأنعام: 53، وقال عز وجل:) ونبلوكم بالشرِّ والخير فتنةً (الأنبياء: 35، فجعل كل ما يصيب الإنسان من شر أو خير فتنة، يعني أنه محنة يمتحن بها، فإن أصيب بخير امتحن به شكره، وإن أصيب بشر امتحن به صبره. وفتنة السراء أشد من فتنة الضراء، وقال عبد الرحمن بن عوفرضي الله عنه: بلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر. وقال بعضهم: فتنة الضراء يصبر عليها البر والفاجر، ولا يصبر على فتنة السراء إلا صديق.
ولما ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع، وقال: كانت زيادة في إيماني. فلما ابتلي بفتنة السراء جزع وتمنى الموت صباحاً ومساءاً، وخشي أن يكون نقصاً في دينه. ثم أن المؤمن لا بد أن يفتن بشيء من الفتن المؤلمة الشاقة عليه ليمتحن إيمانه كما قال الله تعالى:) ألم" أحَسِبَ الناسُ أن يُتركوآ أن يقولوآ آمنّآ وهم لا يُفتَنُون" ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمَنَّ الله الذين صدقوا ولَيعلمَنَّ الكاذبين" (العنكبوت: 13، ولكن الله يلطف بعباده المؤمنين في هذه الفتن، ويصبرهم عليها ويثبتهم فيها، ولا يلقيهم في فتنة مهلكة مضلة تذهب بدينهم، بل تمر عليهم الفتن وهم منها في عافية.
وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر مرفوعاً: "إن لله ضنائن من عباده يغذوهم في رحمته، ويحييهم في عافية، ويتوفاهم إلى جنته، أولئك الذين تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم، وهم منها في عافية".
¥