فأبو حامد الغزالي رحمه الله من المتمكنين في علم الكلام , ومع ذلك فقد جاء عنه ذمه , بل المبالغة في ذمه , ولا يُنبئك مثلُ خبير , جاء ذلك عنه في كتابه إحياء علوم الدين , حيث بين ضرره وخطره , فقال ص91 - 90 (أما مضرَّته , فإثارةُ الشبهات وتحريك العقائد , وإزالتها عن الجزم والتصميم , فذلك مما يحصل في الابتداء , ورجوعها بالدليل مشكوك فيه , ويختلف فيه الأشخاص , فهذا ضرره في الاعتقاد الحق , وله ضررٌ آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة , وتثبيته في صدورهم , بحيث تنبعث دواعيهم , ويشتدُّ حرصُهم على الإصرار عليه , ولكن الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل)
إلى أن قال (وأما منفعته , فقد يُظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه , وهيهّات , فليس في الكلام وفاء بهذا الطلب الشريف , ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف , وهذا إذا سمعته من محدِّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداءُ ما جهلوا , فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين , وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام , وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود , ولعمري لا ينفكُّ الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور, ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام).
وقد نقل شارح الطحاوية عنه هذا الكلام وغيره في ذم الكلام ص236 , وقال ص238 (وكلامُ مثلِه في ذلك حجة بالغة).
ثم بين شارح الطحاوية أن السلف كرهوا علم الكلام وذموه: (لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق , ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة , وما فيه من علوم صحيحة , فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها , وأطالوا الكلامَ في إثباتها مع قلة نفعها , فهي لحمُ جَمل غث على رأس جبل وعر , لا سهل فيُرتقى , ولا سمين فيُنتقل , وأحسنُ ما عندهم فهو في القرآن أصحُّ تقريراً وأحسن تفسيراً , فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد).
إلى أن قال (ومن المحال أن لا يحصل الشفاءُ والهدى والعلمُ واليقين من كتاب الله وكلام رسوله , ويحصلُ من كلام هؤلاء المتحيِّرين , بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل , ويتدبر معناه ويعقله , ويعرف برهانه ودليله , إما العقلي , وإما الخبري السمعي , ويعرف دلالته على هذا وهذا , ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة فيُقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا , فإن أرادوا بها ما يُوافق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قُبل , وإن أرادوا بها ما يُخالفه رُد).
وقال أيضاً ص243 (قال ابن رُشد الحفيد – وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم – في كتابه تهافت التهافت " ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتدُّ به؟ " , وكذلك الآمدي – أفضل أهل زمانه – واقفٌ في المسائل الكبار الحائر , وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخرُ أمره إلى الوقوف والحيرة في المسائل الكلامية , ثم أعرض عن تلك الطرق , وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم , فمات والبخاري على صدره , وكذلك أبو عبدالله محمد بن عمر الرازي , قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات:
نِهاية إقدام العقول عقالُ ... وغايةُ سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصلُ دنيانا أذَى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولةٍ ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد عَلت شُرُفاتِها ... رجالٌ فزالوا والجبالُ جبالُ
لقد تأملت تلك الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية , فما رأيتها تشفي عليلاً , ولا تروي غليلاً , ورأيتُ أقربَ الطرق طريق القرآن , اقرأ في الإثبات (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) , (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) , واقرأ في النفي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) , (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).ثم قال (من جرَّب مثل تجربتي , عرف مثل معرفتي)
وكذلك قال الشيخ أبو عبدالله محمد بن عبدالكريم الشهرستاني , إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم , حيث قال:
لعمري لقد طُفت المعاهد كلها ... وشيرتُ طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كفَّ حائر ... على ذقن أو قارعاً سنَّ نادم
¥