الوجه الرابع عشر: أن الجهمية لما قالوا إن الاستواء مجازٌ صرح أهل السنة بأنه مستوٍ بذاته على عرشه , وأكثرُ من صرح بذلك أئمة المالكية , فصرح به الإمام أبو محمد بن أبي زيد في ثلاثة مواضع من كتبه , وأشهرها الرسالة , وفي كتاب جامع النوادر , وفي كتاب الآداب , فمن أراد الوقوف على ذلك فهذه كتبه , وصرح بذلك القاضي عبدالوهاب , وقال: إنه استوى بالذات على العرش , وصرح به القاضي أبوبكر الباقلاني وكان مالكيا , حكاه عنه القاضي عبدالوهاب نصا , وصرح به أبو عبدالله القرطبي في كتاب شرح أسماء الله الحسنى , فقال: ذكر أبو محمد الحضرمي من قول الطبري يعني محمد بن جرير وأبي محمد بن أبي زيد وجماعة من شيوخ الفقه والحديث , وهو ظاهر كتاب القاضي عن القاضي أبي بكر نصا , وهو أنه سبحانه مستوٍ على عرشه بذاته , وأطلقوا في بعض الأماكن فوق خلقه.
قال: وهذا قول القاضي أبي بكر في تمهيد الأوائل له , وهو قول أبي عمر بن عبدالبر , والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين , وقول الخطابي في شعار الدين.
وقال أبوبكر محمد بن موهب المالكي في شرح شرالة ابن أبي زيد: قوله إنه فوق عرشه المجيد بذاته , معنى (فوق) و (على) عند جميع العرب واحد , وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديق ذلك , ثم ذكر النصوص من الكتاب والسنة واحنج بحديث الجارية وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها (أين الله؟) وقولها (في السماء) وحكمه بإيمانها , وذكر حديث الإسراء , ثم قال: وهذا قول مالك فيما فهمه عن جماعة ممن أدرك من التابعين , فيما فهموا من الصحابة فيما فهموا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم: أن الله في السماء بمعنى فوقها وعليها , قال الشيخ أبو محمد: إنه بذاته فوق عرشه المجيد , فتبين أن علوه على عرشه وفوقه إنما بذاته , إلا أنه بائنٌ مع جميع خلقه بلا كيف , وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته , لا تحويه الأماكن , لأنه أعظم منها , إلى أن قال: وقوله: على العرش استوى , إنما معناه عند أهل السنة على غير معنى الاستيلاء والقهر والغلبة والملك , الذي ظنت المعتزلة ومن قال بقولهم أنه معنى الاستواء , وبعضهم إنه على المجاز لا على الحقيقة , قال: ويُبين سوء تأويلهم في استوائه على عرشه على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره , ما قد علمه أهل المعقول أنه لم يزل مستولياً على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها , وكان العرشُ وغيره في ذلك سواء , فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاءٌ وملكٌ وقهرٌ وغلبةٌ , قال: وذلك أيضاً يبين أنه على الحقيقة بقوله (ومن أصدق من الله قيلا) فلما رأى المصنفون إفراد ذكره بالاستواء غير الاستيلاء , فأقروا بوصفه بالاستواء على عرشه وأنه على الحقيقة لا على المجاز , لأنه الصادقُ في قيله , ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله , إذ ليس كمثله شيء , هذا لفظه في شرحه.
الوجه الخامس عشر: أن الأشعري حكى إجماع أهل السنة على بُطلان تفسير الاستواء بالاستيلاء , ونحن نذكر لفظه بعينه الذي حكاه عنه أبو القاسم بن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري , وحكاه قبله أبو بكر بن فوْرك وهو موجود في كتبه , قال في كتاب الإبانة وهي آخر كتبه قال:
(باب ذكر الاستواء) إن قال قائلٌ: ما تقولون في الاستواء , قيل: نقول له: إن الله تعالى مستوٍ على عرشه , كمال قال تعالى (الرحمن على العرش استوى) , وساق الأدلةَ على ذلك , ثم قال: وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معني قوله (الرحمن العرش استوى) أنه استولى ملكَ وقهر , وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهلُ الحق , وذهبوا في الاستواء إلى القدرة , ولو كان هذا كما قالوا كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى , لأن الله تعالى قادرٌ على كل شيء والأرض والسموات وكل شيء في العالم , فلو كان الله مستوياً على العرش. بمعنى الاستيلاء والقدرة لكان مستوياً على الأرض والحشوش والأنتان والأقدار , لأنه قادرٌ على الأشياء كلها , ولم نجد أحداً من المسلمين يقول إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية , فلا يجوزُ أن يكون معنى الاستواء على العرش على معنى هو عام في الأشياء كلها , ووجبَ أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون سائر الأشياء , وهكذا قال
¥