ـ[حديث الروح]ــــــــ[17 - 03 - 02, 11:25 ص]ـ
ثم كان القرن التاسع عشر هو قرن التغيرات الكبرى في كل مجالات الحياة الأوربية:-
· الثورة الصناعية تعم أرجاء القارة حاملة الكوارث الاجتماعية مع التقدم المادي الكبير.
· الرأسمالية بوجهها الكالح تسيطر على أوربا وتحفز الأوربيين للتنافس الضاري على خيرات العالم كلها حيث كان العصر الذهبي للتوسع الاستعماري والاحتكار التجاري.
· الثورات السياسية تجتاح القارة مزلزلة بقايا الإقطاع والأنظمة الملكية.
· الفلسفة المثالية تسود القارة (وخاصة ألمانيا) والمذهب النفعي يسيطر على إنجلترا.
· خارطة أوربا تشهد تغييرات مفاجئة متلاحقة (إمبراطوريات تسقط وولايات تصبح إمبراطوريات، دول تنكمش وأخرى تختفي…) [22].
· التعصب القومي يبلغ ذروته (جذور الفاشية، جذور النازية، الحركة الصهيونية).
· ظهور الحركات المتطرفة (الماركسية، العدمية، الفوضوية).
ولعل أكبر الأحداث الفكرية في أول القرن هو ظهور الفلسفة الوضعية التي نادى بها " كونت " 1857م ديناً جديداً للإنسانية.
ثم تلاها البركان الذي تجاوبت أصداؤه في أنحاء القارة كلها وأحدث انقلاباً عاماً في الأفكار والآراء والمعتقدات التي توارثتها أوربا – بل الإنسانية – قروناً طويلة وهو البركان الذي فجره " داروين " في كتابه " أصل الأنواع " المشتمل على نظرية التطور العضوي والانتقاء الطبيعي.
وقد وصلت سيول الحمم التي قذفها البركان إلى أرجاء المعمورة كافة نتيجة جهود عظيمة قام بها أناس متعددو الاتجاهات لكنهم متفقو الدوافع – على ما يبدو – ومن أبرزهم اليهود الثلاثة " ماركس، فرويد، دوركايم " [23] وتبعهم بالطبع جموع هائلة من المغررين (أو المسيرين!) في كل مكان.
هذا الحدث المذهل أثار حفيظة دعاة القديم وبالأخص رجال الكنيسة فاستجمعوا قواهم واستنجدوا بكل حميم وخاضوا معركة كان فيها حتفهم وانقشع الغبار عن سقوط آخر قلاع الكنيسة وخروجها كلياً عن ميدان الصراع الفكري العام واندحار الدعاة الأخلاقيين ودعاة الالتزام عامة ولم يبق لهم إلا شراذم في
(حزام الإنجيل) [24] وشبهه.
وهكذا كان الغرور الهائل الذي أوحت به النظرية، والثقة في التقدم المطلق في كل المجالات الذي أسهمت فيه الاكتشافات العلمية المذهلة حينئذٍ، وكانت نهاية المطاف ظهور النظرية النسبية في أوائل القرن العشرين (1905م).
ونتج عن ذلك تنكر مخيف للماضي بكل مافيه وقطع متعمد للأواصر الرابطة به وثورة شاملة على الأخلاق والتقاليد، لم يسبق لها نظير من قبل.
في هذا الجو المحموم تأرجح الأدب واستقر في اتجاه مضاد هو " الواقعية ".
والواقعية تعني أوضح ما تعني السقوط:
السقوط من خيال الرومانسية إلى أرض الواقع فالمحور ليس الشاعر بل العامل والفلاح والموظف الصغير.
والنزول من برج اللغة المعقدة المتأنقة إلى احتضان اللهجات المبتذلة.
والصراحة في عرض ما يدور في النفس الإنسانية بلا مواربة فالحبيبة هنا ليست ملاكاً تحوم حوله الأشواق المثالية بل هي جسد تظمأ له رغبات الجوارح …
القضايا الكلية ليست ما يتعلق بحقيقة الوجود وغاية الإنسان فيه وإنما هي الهدف اليومي للفرد العادي …
وعلى المستوى العام بقيت في أوربا إلى مطلع القرن العشرين بقايا من الأوضاع الاجتماعية الموروثة وشيء من القيم الشاحبة (الأسرة، الرابطة القومية، احترام ظاهري للعهود والمواثيق، نوع من الالتزام بالمبادئ الأخلاقية) وهذه البقايا عصفت بها الرياح الهوجاء التي حملت دخان الحرب العالمية الأولى إلى أرجاء القارة ومنها إلى أطراف العالم الأخرى.
وأسفرت تلك الحرب – مما أسفرت عنه – عن انكسار حاد في نظرة الإنسانية إلى مصيرها وانقلبت الثقة والتفاؤل خيبة وتشاؤماً، وأفاق الإنسان الأوربي المخدر بنشوة التقدم المطلق على المدافع وهي تدمر مع القلاع والمدن أحلامه بيوتيبيا [25] علمية إنسانية لقد كان فصلاً جديداً من مسرحية التاريخ الأوربي حيث اختفى مشهد "بروميثوس" وظهر مشهد "سيزيف" [26].
في هذا الوضع الخانق تنادت الأصوات للعودة إلى شيء من المسلمات الثابتة والالتزامات الإنسانية وظهرت نقاط " ويلسون " الأربع عشرة ثم الالتفات حول شبح عصبة الأمم.
¥