وكانت فترة مابين الحربين من أعظم الأحقاب في التاريخ الأوربي هيجاناً وصراعاً ولاسيما في الميدان الفكري حيث تضاربت الدعاوى والاتجاهات وظهرت مذاهب جديدة في كل فن ومعايير جديدة في كل علم ومجموعات اجتماعية غريبة.
وفي ظل هذا الهيجان نمت ظاهرة الشعر الإنجليزي الحر وتألق "إليوت " [27] أبرز شعراء الحداثة، أما الشعر الفرنسي الحر فقد ظهر قبل ذلك بكثير.
وفي الجانب الآخر قفز العلم التجريبي قفزات هائلة كان من أعظمها ما سمي اكتشاف الذرة سنة 1938 م.
وتدور السنون ولم يدرك أكثر الناس مغزى هذا الاكتشاف حتى انفجرت أعنف حروب التاريخ وأشدها هولاً (الحرب العالمية الثانية) هناك ذهلت أوربا بجحافل هتلر وهي تدك باريس وقذائفه وهي تغطي سماء لندن وكتائبه وهي تسحق لينينجراد ولكن الذهول الأكبر كان ساعة الانتصار حيث سقطت القنبلة الذرية على هيروشيما [28]، وكان إعلان انتصار الحلفاء يعني في الوقت نفسه إعلان وقوف الإنسانية على حافة الهاوية الكبرى.
وفي هذه الأجواء الخانقة والمشاهد الفظيعة ظهرت ألوان من الآراء والمذاهب أكثر قتامة وعبوساً وأكثر شعوراً بتفاهة الحياة وعبثها.
لقد انهارت الآمال الكبرى في التقدم والثقة في عقل الإنسان!!
أما الآلة التي أراحت الإنسان من عناء العمل اليدوي المرهق فقد أصبحت صنماً يسحق إنسانية الإنسان بل معبوداً جباراً ينتقم من الجنس الإنساني بوحشية لا نظير لها في التاريخ كله!!
لم تعد المأساة تتمثل في " أرض يباب " فحسب بل أصبحت " طاعوناً " [29]، واتسعت دائرة البلاء بواسطة وسائل الاتصال المتقدمة والتدفق المسيطر للمعلومات ليصبح الإنسان في جزر الهند السحيقة وحوض الأمازون وأحراش أفريقية يعيش مأساة الوجود الحائر والمستقبل المعتم ويرى هذا الشبح الرهيب معلقاً فوق رأسه.
أما داخل أوربا نفسها فقد أصبح الفرد العادي يحمل الهموم الكبرى التي ما كان يكابدها في عصور خلت إلا قلة من الفلاسفة التشاؤميين أمثال "شبنجلر وأرويل" ويعيش الأزمة الخانقة التي ذهبت بعقل نيتشه ودمرت نفسية شوبنهاور وألجأت تولستوي إلى المنفى. حتى المسرح الذي كان وسيلة الناس للهروب من الواقع الكالح إلى ميادين من المتعة واللهو و إشغال الوقت تحول (ومعه السينما) إلى مسرح عبث ووجودية وفوضوية وعدمية … الخ.
لم يعد أحد يتحدث عن " طرطوف " بل عن " دماء الخنازير " وأمثالها [30].
إنها بأصرح عبارة = مأساة أمة لم تسلم وجهها إلى الله ولم تعرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
إن الذنوب والمعاصي تدمر الأمة وتنزل بها من موجبات العقوبة ما لا يعلمه إلا الله فكيف بالإلحاد الصريح المتدفق موجات إثر موجات في ذلك المحيط الهائج المضطرب.
ومع اتساع الهوة بين الواقع المعاصر – بيأسه وقنوطه ومعضلاته المستعصية – وبين النظريات الوضعية الشمولي منها والنسبي ظهر جلياً عقم الفلسفة وارتدت في كرة خاسرة يصدق عليها قول أحد كبارها ((إنها ثرثرة تهدف إلى التخلص من الثرثرة)) وتسرب فراغ المضمون هذا إلى الملجأ الهش الذي هرب إليه فلاسفة اللامعقول وهو " الأدب " وكان الدخول من باب " النقد " الذي باسمه تحولت اللغة إلى موضوع رئيس لجدل فلسفي عقيم وكان استدراج فروع الأدب كافة إلى هذا المستنقع متلاحقاً وسريعاً، ولعل أوضح الأدلة على ذلك انسياق الماركسية له رغم شموليتها المغالية واعتسافها المطلق للأدب في إطار" الواقعية الاشتراكية " التي لا تزيد عن كونها نموذجاً مدرسياً معاصراً – كما عبر جارودي -.
وهكذا تحول الاهتمام (وبخاصة في فرنسا) عن موضوع " الأنا والعالم، والوجود، والمادة، والعقل … " الخ إلى " النص، الشكل، التركيب، البنية، الرمز، الأسطورة … " الخ كما تحولت الأفكار من المعارك التقليدية بين الفلسفات المنهجية كالحال بين الماركسية والوجودية إلى ضروب جديدة متنافرة من التقلبات الفكرية والجدل غير ذي الموضوع، وهو ما شهده العقد السادس الميلادي الذي يمكن أن يوصف بأنه " عقد البنيوية "!!
ففي الستينيات برزت البنيوية منافساً للوجودية من جهة، وتطويراً للمادية الجدلية من جهة أخرى، وتغلغلت في كثير من العلوم حتى ظهر منافسها "التفكيكية" في السبعينيات.
¥