قلت: هذا قول ابن المبارك في بيان صدق الفضيل بن عياض.
1 - والذي يتفق مع قول إبراهيم بن شماس:
"رأيت أفقه الناس، وأورع الناس، وأحفظ الناس: فأما أحفظ الناس فابن المبارك، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض، وأما أفقه الناس فوكيع بن الجراح". اه. كذا في "تهذيب الكمال" (15 - 109).
2 - ويتفق مع قول هارون الرشيد:
"ما رأيت في العلماء أهيب من مالك بن أنس ولا أورع من الفضيل بن عياض".
3 - ويتفق مع قول إسماعيل بن يزيد عن إبراهيم بن الأشعث:
"ما رأيت أحدًا كان الله في صدره أعظم من الفضيل بن عياض، كان إذا ذُكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ظهر به الخوف والحزن وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من بحضرته، وكان دائم الحزن، شديد الفكرة، ما رأيت رجلاً يريد الله بعلمه وعمله وأخذه وعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبه وخصاله كلها غيره". اه.
قلت: ولذلك جمع فيه الحافظ ابن حجر القول في "التقريب" (2 - 113) فقال: الفضيل بن عياض بن مسعود التيمي أبو علي، الزاهد المشهور أصله من خراسان وسكن مكة، ثقة عابد إمام من الثامنة، مات سنة سبع وثمانين ومائة.
قلت: من هذه القرينة يتبين للقارئ الكريم حقيقة عبادة الإمام الفضيل بن عياض، والذي ترجم له الإمام المزي قائلاً: "أبو علي الزاهد أحد صلحاء الدنيا وعبادها"،
ولقد تبين من قول ابن المبارك الذي أوردناه آنفًا: "أنه صدق الله" مما يدل على أن هذه القصة الواهية قصة مكذوبة على ابن المبارك الذي يعرف قدر شيخه الفضيل بن عياض، كما بينا آنفًا، فما كان له أن يصفه بالعبث واللعب في العبادة.
القرينة الثانية "حج الخليفة":
الذي يتأمل في القصة والأبيات التي كتبها ابن المبارك بطرسوس وأرسلها مع ابن أبي سكينة البهراني إلى الفضيل بن عياض وودعه بالخروج للحج سنة تسع وسبعين ومائة، يدل على أن الأمة في هذا الوقت كانت في حرب، وأن ابن المبارك كان في معركة والفضيل يلعب في العبادة بمكة.
قلت: بالبحث في كتاب "البداية والنهاية" (10 - 533) للإمام ابن كثير لسنة تسع وسبعين ومائة نجد أن موسم الحج كان موسم أمن وأمان، ولا توجد فيه حرب، ولذلك خرج الخليفة هارون الرشيد في هذه السنة للحج، حيث قال الإمام ابن كثير:
"وفيها خرج الرشيد معتمرًا من بغداد شكرًا لله عز وجل، فلما قضى عمرته أقام بالمدينة حتى حج بالناس في هذه السنة، فمشى من مكة إلى منى ثم إلى عرفات وشهد المشاهد والمشاعر كلها ماشيًا، ثم انصرف إلى بغداد على طريق البصرة". اه.
قلت: ولقد ذكرنا هاتين القرينتين للاستئناس على نكارة القصة ومن تحقيق القصة الذي أوردناه آنفًا يتبين أن القصة واهية من غير هذه القرائن، وأن ابن المبارك رحمه الله بريء من احتقاره لعبادة الفضيل رحمه الله، بل هو الذي شهد للفضيل بأنه صدق الله فأجرى الحكمة على لسانه: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا {البقرة: 269}.
وإن تعجب فعجب كيف ينسب لابن المبارك احتقاره لعبادة الفضيل وجعلها لعبًا وعبثًا وقد ترجم الإمام المزي للفضيل أنه: "الزاهد أحد صلحاء الدنيا وعبادها" كما بيّنا آنفًا، ولا يخفى على ابن المبارك مكانة الصالحين في النصر.
1 - فلقد بوّب الإمام البخاري في "صحيحه" كتاب الجهاد بابًا بعنوان: "من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب" باب (76).
قلت: ثم أخرج الإمام البخاري تحت هذه الترجمة: (ح2896) قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا محمد بن طلحة عن طلحة عن مصعب بن سعد قال: رأى سعدٌ رضي الله عنه أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون إلا بضعفائكم".
2 - قلت: ولقد بوب الإمام النسائي في السنن الكبرى والصغرى في كتاب "الجهاد" بابًا بعنوان: "الاستنصار بالضعيف".
قلت: ثم أخرج الإمام النسائي تحت هذه الترجمة في "السنن الكبرى" (3 - 30) (ح4387) قال: أنبأنا محمد بن إدريس قال: حدثنا عمر وهو ابن حفص بن غياث عن أبيه عن مسعر عن طلحة عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه: ظنّ أن له فضلاً على من دونه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال نبي الله: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم".
قلت: وهذا الحديث أخرجه النسائي أيضًا في "الصغرى" (2 - 65)، وأبو نعيم في "الحلية" (5 - 26) من طريق طلحة بن مصرف عن مصعب بن مسعد عن أبيه، وهو حديث صحيح.
3 - قلت: وقد أخرج أبو داود (ح2594)، والنسائي (2 - 65)، وفي الكبرى (3 - 30) (ح4388)، والترمذي (4 - 179 - شاكر) (ح1702)، وابن حبان (ح1620)، والحاكم (2 - 106، 145) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ابغوني الضعفاء؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، فالحديث صحيح وهو كما قالا.
قلت: ثم نقل الحافظ في "الفتح" (6 - 105) أقوال الأئمة حول الحديث:
1 - قال ابن بطال: "تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصًا في الدعاء وأكثر خشوعًا في العبادة لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا". اه.
2 - وقال المهلب: أراد صلى الله عليه وسلم بذلك حَض سعد على التواضع ونفي الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل حالة. اه.
"الاستفتاح بالصالحين"
أخرج الإمام البخاري (ح2897) قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن عمرو سمع جابرًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال: فيكم من صَحِب النبي #؟ فيقال: نعم، فيفتح عليه، ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صَحِب أصحاب النبي #؟ فيقال: نعم، فيفتح، ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب أصحاب أصحاب النبي #؟ فيقال: نعم، فيفتح". اه.
قلت: فما أحوجنا إلى العودة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة الذين كتب الله لهم الفتح، في الوقت الذي أعدوا لعدوهم ما استطاعوا من قوة.
بهذا يتبين للقارئ الكريم عدم صحة هذه القصة من خلال التخريج والتحقيق وكيف صححنا المفاهيم من خلال السنة الصحيحة المطهرة.
هذا ما وفقني الله إليه، وهو وحده من وراء القصد.
¥