وقال الإمامُ ابنُ القيمِ في حاشيته على سنن أبي داود (12/ 278): وَقَدْ أَبَاحَ اللَّه تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِالْكَفَّارِ إِذَا مَثَّلُوا بِهِمْ , وَإِنْ كَانَتْ الْمُثْلَة مَنْهِيًّا عَنْهَا. فَقَالَ تَعَالَى: " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ " [النحل: 126] وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَة بِجَدْعِ الْأَنْف وَقَطْع الْأُذُن , وَبَقْر الْبَطْن وَنَحْو ذَلِكَ هِيَ عُقُوبَة بِالْمِثْلِ لَيْسَتْ بِعُدْوَانٍ , وَالْمِثْل هُوَ الْعَدْل ".ا. هـ.
قال الشيخ أبو عمر محمد السيف -حفظه الله- في (هداية الحيارى في قتل الأسارى): "وقد وصلنا عندما كنا في أفغانستان فتوى لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله مفادها، عندما سئل عن التمثيل بجثث العدو، فقال إذا كانوا يمثلون بقتلاكم فمثلوا بقتلاهم لا سيما إذا كان ذلك يوقع الرعب في قلوبهم ويردعهم والله تعالى يقول: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ". اهـ
وقد جاء في سببِ نزولِ قولهِ تعالى: "
عَنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ فِيهِمْ: حَمْزَةُ؛ فَمَثَّلُوا بِهِمْ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: " لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ " فَقَالَ رَجُلٌ: " لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً ".
رواه الترمذي (3129) وقال: " حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ "، وأحمد (5/ 135) من زوائدِ عبد الله، وأوردهُ الشيخُ مقبل الوادعي في " الصحيحِ المسندِ من أسبابِ النزول " (ص 91).
الترجيح:
وبعد عرضِ الأقوالِ في المسألةِ، الذي تميلُ إليهِ النفس – واللهُ أعلم – ما قررهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، وتلميذهُ ابنُ القيم، والشيخُ ابنُ عثيمين رحمهم الله.
وقفاتٌ مهمةٌ:
الوقفةُ الأولى:
تبقى المسألةُ مجردَ أقوالٍ سردتها وجمعتها يُرجعُ الأخذُ بأيها إلى علماءِ العراقِ ومن يعايشون واقعَ الأحداثِ وذلك لأن تقريرَ المسألةِ يختلفُ عن تنزيلها في الواقعِ، إلى جانبِ إعمالِ المصالحِ والمفاسدِ، وكذلك القواعدُ الكليةُ في الشريعةِ، هذا إذا سلمنا أنهم مثلوا بجثثِ العلوجِ، ولكن الواقع لا يدلُ على ذلك وعلى أقلِ تقديرٍ فيما ظهر لي.
الوقفةُ الثانيةُ:
لا ينبغي الإنكارُ على من ترجح لهُ أحدُ الأقوالِ، أو رميهُ بالتهمِ، فليستِ المسألةُ مسألةَ عواطفٍ، وإنما هو دينٌ، فلا بد أن نزنَ أمورنا بميزان الشرعِ لا بالعاطفةِ، وفي المقابلِ يرفعُ بعضُ المساكين عقيرتهم إذا قام أهلُ الإسلامِ بمثل هذه الأفعالِ، ولكنك لا تجده يرفعها إذا قتل مسلمٌ واحدٌ بدمٍ باردٍ في أي بلدٍ من بلادِ العالم، والله المستعان.
الوقفةُ الثالثةُ:
وهناك أمرٌ مهمٌ جداً؛ ففيما قام به أهلُ الفلوجةِ بجثثِ العلوجِ وظهورهُ في وسائلِ الإعلام العالميةِ قد يكونُ لفعلهم تأثيرٌ على شعوبِ الدولِ المعتديةِ على العراقِ وعلى رأسهم أمريكا - دولة عاد – للضغطِ على حكوماتهم والإسراعِ بالرحيل والانسحابِ منها كما حصل في الصومال، وكما تعلمون ويعلمُ الجميعُ أن لوسائلِ الإعلامِ في تلك البلادِ أثرٌ عظيمٌ على الرأي العامِ، وهذا بحدِ ذاته سلاحٌ يخدم القضية ولا شك، ولعله في هذا المقام يستأنس بقولِ اللهِ تعالى: " فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ " [الأنفال: 57].
قال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ الآيةِ: " " فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْب " أَيْ تَغْلِبهُمْ وَتَظْفَر بِهِمْ فِي حَرْب " فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ " أَيْ نَكِّلْ بِهِمْ. قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَابْن عُيَيْنَةَ وَمَعْنَاهُ غَلِّظْ عُقُوبَتهمْ وَأَثْخِنْهُمْ قَتْلًا لِيَخَافَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْأَعْدَاء مِنْ الْعَرَب وَغَيْرهمْ وَيَصِيرُوا لَهُمْ عِبْرَة " لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ".ا. هـ.
فيكون هذا من بابِ التنكيلِ بهم الذي يخدمُ القضيةَ إعلامياً، والله أعلم.
وللموضوعِ بقيةٌ إن شاء الله تعالى ...
14 صفر 1425 هـ